من يحدد قواعد السلوك الحميد?

التنوع الغريب والمدهش في تقاليد وعادات البشر

TT

هل يصح الحكم على قضايا الذوق؟ وهل من الممكن وضع لائحة بالأفعال التي لا تتناسب مع السلوك الجيد، أي فيما يُعد قبيحاً ومؤذياً للشعور العام؟ لكن ما هو السلوك الجيد؟ قواعد السلوك ليست عامة، ولا واحدة، وهي دليل إضافي على أن عالمنا، وهو عالم في سبيله إلى أن يصبح قرية كونية، لم يتفق بعد على ما هو الجيد أو السيئ في السلوك البشري، فالتصرف المنفر في نظرنا أو في بلدنا، قد يكون جذاباً لدى آخرين في بلدان أخرى، والعكس وارد طبعاً.

لو حاولنا الإجابة على ما هو جيد أو سيئ في السلوك الإجتماعي، فالإجابات كثيرة وغير شافية، وربما كانت مضحكة وأقرب إلى العبث. مع هذا يشعر الناس أنهم بحاجة إلى الاطلاع على القواعد المتصلة بطرائق السلوك في المجتمع. لكن من هو المرجع المؤهل الذي يستطيع تحديد القواعد الصحيحة الملزمة للسلوك الرشيد؟

في ألمانيا، ينبري السادة والسيدات معلمو الرقص إلى عقد الاجتماعات، خلال فترات منتظمة ويحررون المحاضر وينصحون الشعب الألماني بقواعد سلوك محددة، تنشر في الصحف، تحمل أمثال هذه التوصيات:

لقد بات في وسع المرء أن يقطع الهليون بالسكين أيضاً.

بات من الجائز ارتداء حلة السموكنغ بعد الظهر.

هل هناك من يحمل هذه النصائح على محمل الجد؟ لا ندري. وعلى حد رأي البعض، لماذا يتولاها معلمو الرقص الذين لا يجوز لإرشاداتهم أن تتجاوز تعليم خطوات الرقص. بعد الثورة الفرنسية كان الأمر مختلفاً، كان معلمو الرقص في النظام القديم، مطلوبين جداً لدى طبقة السادة الجدد ليعلموا الدوقات قليلات الخبرة أصول التعامل مع ذيل الفستان. اليوم في العصر الحديث، يبدو أن المرجع الذي يحق له الإدلاء برأيه في مسألة قواعد السلوك وآداب اللياقة ما عاد له وجود. فمضمار السلوك فسيح كالحياة نفسها، وعلى وجه الدقة شيء قلما يحاط به إحاطة كاملة، عدا أن الكثير منها ينتمي إلى عصور ولى زمانها. فبعض مفاهيم الشرف باتت على صلة بزمن ساد فيه اعتبار للجماعات التي يطلق عليها اسم طبقات، أوصت بوجوب أن يحمي كل امرئ شرفه بكل الوسائل مما قد يضطره على طلب المبارزة، لكن المبارزة ومنذ زمن طويل باتت محظورة وبصرامة. كان الشرف تعبيراً عن الإيمان بأنه ليس من الممكن حل كل مسائل الحياة المشتركة بين البشر عن طريق الدولة والقانون والمجتمع، وتقتضي من الفرد استعداداً للقتال قد ينطوي على هلاكه. ما علاقة الشرف بقواعد السلوك؟ العلاقة كبيرة جداً حتى يمكننا القول بأن قواعد السلوك هي الثوب الذي يتشح به الشرف وهو ماض في الحياة، هذا عدا أن القواعد المتوارثة من التقاليد، تصادف في كل جيل أناساً جدداً يطبقونها بطريقة مستحدثة في نوعها، تكاد في بعض الأحيان لا تمت بصلة إلى أصلها، كذلك قد تبلغ حداً مثيراً من التطرف. ففي القواعد الأوروبية القديمة، يوجب على المرء ألا ينسى بأن يعرض على النساء والأطفال الأماكن المريحة في قارب الإنقاذ على سبيل التفضيل، أو السؤال الذي طرحه النبيل الفرنسي على نفسه وهو ينتظر أن يشده الجلاد بالحزام على لوح المقصلة: ماذا عليه أن يمنح هذا الرجل؟ في العصور الوسطى كان من حق الجلاد أن يتوقع في حالة إعدام نبيل، تذكاراً مناسباً، خاتماً جميلاً مثلاً، لكي يوجه إليه ضربة البلطة بكل عنفوان ودقة، ليوفر على السيد نهاية حافلة بالعذاب.

ثمة قواعد من مجال حضاري معين، يضطر بعض الناس إلى اتباعها مع أنهم لم يسمعوا بها ولا يؤمنون بالتعامل بها. إن ذوقهم الشخصي يتعارض وربما ينفر منها، فطرائق التحية عند معظم الشعوب الافريقية تعد مثلاً، بالاستناد إلى كتاب علم الاجتماع لهربرت سبنسر، طرائق تتسم بالعبودية؛ كالأحباش الذين يجثون على ركبتهم ويقبلون الأرض. وحسب موسوعة (مير) الروسية القديمة «يلقي الروسي بنفسه على قدمي سيده ويحيط بركبتيه ويقبلهما. أما البولوني فيلقي بنفسه أيضاً على قدمي سيده، أو يقبل كتفيه. وأما البوهيمي فيقبل أهداب ثوبه السفلي» . وفيما لو أجلنا النظر في ما مضى من قواعد السلوك الإنساني بين مختلف الشعوب لأذهلنا هذا التنوع الغريب والمدهش، غير القابل للتفسير أحياناً وربما غالباً. والكتاب زاخر بالأمثال والطرائف وتتناول: المظهر الحسن، الدقة في المواعيد، ارتداء الثياب، التعامل مع الأعداء، اللغة، المخاطبات والألقاب، تقبيل اليد، الحديث، الثناء، التحية، الشقاء، المطبوعات والرسائل، المائدة، حالة السكر، التعميد والأسماء، العرس والهدايا، الأزهار، المساواة وعدمها.

قواعد السلوك ليست نظاماً، أو منظومة، وهي أمور لا يمكن الوصول إليها عن طريق الاستنتاج المنطقي، وتمتنع على البرهان، ولو كان لها صفة الجزم، إذ لا يمكن أن تكون موضوعاً قابلاً للمناقشة. وعندما نقول (لا نزاع في مسألة الذوق) فالمقصود لا مجادلة في الذوق، لا لأنها مسألة خصوصية، أو تدخل في مجال ما يروق ويحلو للفرد، بل لأنه لا يوجد هناك إلا ذوق جيد ووحيد، ويعد بدهية، ومن يشكك فيه يكشف عن أنه لم يفهم هذه السمة، ويعالج الذوق على صعيد العقلانية، بدلاً من أن يقبل به على الصعيد الوحيد والملائم، وهو التقيد المطلق به، والتنفيذ البدهي له.

لم يفهم كبار معلمي قواعد السلوك في كل العصور أنفسهم على أنهم مشرعون أبداً، بل على أنهم مفسرون ومؤولون لمجموعة من القوانين الموجودة من قبل، وكانت موجودة على الدوام وفقاً لتصورهم، وتنسجم مع مبادئ مستمدة من الفن والفلسفة والدين، مرتبطة في كل لفتة من لفتاتها بناموس الكون بأسره.

كانت قواعد السلوك المنسجمة مع وضع الفرد الخاص، تُبَوؤه مكانة في هذا الكون، وتجعل منه إنساناً لأول مرة على وجه الإطلاق؛ كان في تعرُّضه للتربية وتقبله لقواعد السلوك اجتياز لمرحلتين يصبح بموجبهما إنساناً. تقوم الأسرة بنقل قواعد السلوك الأول، وفيها يجد الطفل العالم منعكساً بصورة نموذجية؛ رحمة الله تتجلى في الأم، وعدالة الرب تتجسد في الأب. ثم يأتي المربون المتمثلون في مؤسسات ذلك الزمن (مثلاً المدارس الإنجليزية العامة، كليات أكسفورد وكمبردج، العسكرية البروسية...) تشدد قبضتها، وتقولب الفرد على نحو أكثر جذرية، وتساهم الطقوس الدينية بوضع أساس لقواعد السلوك، وبهذا المعنى كان خادم القداس عندما يسوق الصبية إلى الطقس الديني، كان يصوغ السلوك ويوجهه.

مثَّل الفرد بسلوكه أكثر من مجرد نفسه، كان يمثل أسرته، وظيفته، ويمثل في حالات معينة، معتقده، وطبقته وبلاده، بل ويمثل جنسه؛ وبفعل قواعد السلوك يتحول الرجل والمرأة إلى رجل مطلق وامرأة مطلقة. يتشكل الفرد من خلال سلوكه تبعاً للقواعد، ويمثل أي شيء عدا نفسه ذاتها، وإذا حاول خلاف ذلك فسوف يكون مجنوناً جنوناً يماثل شخصية دون كيخوته التي انطلقت إلى العالم محكومة بإحساس مبهم حياله.

اليوم، سيكون مجنوناً ومضحكاً على النحو ذاته، كل من تنازعه نفسه، النظر في كتاب لقواعد سلوك عائدة إلى مجتمع مفرط في سماته الخصوصية، على أنها شيء ملزم. إن القواعد الملزمة والمتعلقة بكيفية مخاطبة الناس واجتذابهم، وتناول الطعام واستقبال الضيوف، والزواج والموت، ما عادت واجبة. وإذا كانت المجلات النسائية وأساتذة الطبخ يعلمون جمهورهم فن الاستمتاع الراقي ووسائله، ويقدمون أحدث التطورات إثارة للاهتمام، مهما بالغوا في نصائحهم وتحمسهم، فلن يصل بهم الادعاء إلى أن هذه الأمور هي قواعد السلوك الصحيح.

ثمة تفسيرات كثيرة لهذه المتغيرات؛ الظروف التاريخية الدينية والسياسية، وتجلياتها الجمهورية، الديمقراطية، الثورات، المؤسسات الحديثة، الرفاهية... الخ. ومن التفسيرات الملحوظة: اختراع الحياة الخاصة، ففي عالم ما قبل الثورة الصناعية، لم توجد حياة خاصة. كانت الحياة عامة دائماً، الملك يأكل ويتغوط أمام الملأ، والملكة تلد في حضور البلد، وفي مخدع الملك خادم معصمه مربوط بمعصم الملك بحبل يصل بينهما. ما من أحد كان بوسعه أن يكون في خلوة، كما هو اليوم شأن كل رجل وامرأة، يعيشان في مسكنهما الصغير ويوصدان الباب وراءهما بعد العمل.

أصبحت الحياة قسمين، عام وخاص. ولكل منهما طرائق سلوك مباينة لطرائق الآخر. لم يعد يسمح لأحد، جماعة أو هيئة بالتغلغل في الحياة الخاصة وتشكيلها. إن الضغط الذهني الهائل الذي يتعرض له الإنسان المعاصر، يضطره إلى إغلاق بابه في وجه مجتمعه وطبقته وحكومته ومهنته، وكل نوع من الالتزام، وعيش حياته الخاصة بحرية وعدت بها الديمقراطية الناس جميعاً. لم تعد الحرية تتمثل إلا في أوقات الفراغ، حيث لا يسود تشريع ولا قاعدة. وتعد قواعد السلوك في أوقات الفراغ هذه، عبئاً باعثاً على الكرب، ولا عجب أن يرى المرء من حقه التخلص منها بعد أسبوع من العمل المضني.