القاعدة ستزول لكن ستحل محلها منظمات أصولية أخرى

تقرير وكالة المخابرات المركزية الأميركية عن العالم عام 2020

TT

هذا الكتاب ينبغي ان يطلع عليه كل المثقفين وصناع القرار في العالم العربي. فهو يقدم صورة عامة عما سيحصل في كل مناطق العالم طيلة الخمسة عشر عاما القادمة. انه يدخل في دائرة ما ندعوه بعلم المستقبليات: أو علم التنبؤ بالمستقبل. ولكنه ليس قائما على تخمينات وظنون وانما على معطيات محسوسة واحصائيات دقيقة. وقد ساهم في كتابته عشرات الباحثين والاساتذة الجامعيين في كافة الاختصاصات ومن مختلف بلدان العالم وليس فقط من أميركا.. والواقع ان المجلس القومي للاستخبارات الاميركية هو الذي قدمه للمخابرات المركزية الاميركية وبالتالي للرئيس جورج بوش والقيادة العليا لكي تطلع عليه وتعمل على هديه.

الدول الكبرى لا تشتغل في الفراغ ولا خبط عشواء ولا تنتظر ان تحصل الاحداث لكي تقوم برد فعل عليها وانما تخطط لها وتستبق حدوثها لكيلا تفاجأ بما لا تحمد عقباه. ولذلك فهي تخطط لعشرين سنة الى الامام أو خمس عشرة على الاقل.

والاسئلة التي يطرحها هذا الكتاب والتقرير هي من النوع التالي: كيف ستكون صورة العالم عام 2020، اي غدا أو بعد غد؟ هل ستفقد اميركا هيمنتها المطلقة على العالم؟ هل ستظهر قوة عظمى لكي تنافسها وتوقفها عند حدها؟ وما هي هذه القوة العظمى؟ وما الذي سيحصل للارهاب الاصولي، هل سيضعف يا ترى طيلة هذه السنوات الخمس عشرة المقبلة أم سيقوى؟ ما الذي سيحصل للقاعدة وبن لادن؟ هل سيخف الزخم الاصولي يا ترى؟ ومن سيستفيد من عولمة الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة والتبادلات التجارية ومن لن يستفيد؟ بمعنى آخر: لمن ستكون العولمة ايجابية ولمن ستكون سلبية؟

نلاحظ أن الكتاب يتوقع اربعة سيناريوهات للمستقبل: السيناريو الاول يركز على نجاح العولمة واستفادة معظم مناطق العالم منها ولكن ليس كلها. ويتوقع هذا السيناريو ان تصبح العولمة آسيوية أكثر فأكثر: أي صينية وهندية اساسا. ولكنها قد تصبح اندونيسية وبرازيلية ايضا. وهذه هي القوى التي سوف تظهر الى السطح وتنافس الغرب على قيادة العالم. هذا دون ان ننسى روسيا بالطبع، وكذلك اليابان.

وقد سموا هذا السيناريو بسيناريو دافوس نسبة الى القمة الشهيرة التي تحصل كل عام في مدينة دافوس السويسرية وتضم كبار قادة العالم في مجال السياسة والاقتصاد ورجال الاعمال: أي في مجال العولمة بامتياز. وهذا السيناريو متفائل ويتوقع حصول عولمة سعيدة لمعظم مناطق العالم ما عدا افريقيا السوداء وربما العالم العربي! ولكن ليس كله..

اما السيناريو الثاني فيحمل اسم: السلام الاميركي أو الهيمنة الاميركية على العالم. ويرى التقرير ان اميركا ستظل الدولة الاعظم حتى عام 2020 اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا وسياسيا. ولكن هيمنتها قد تتعرض لبعض الزعزعة من قبل القوى العظمى الآسيوية التي ستظهر على السطح أو تنبثق انبثاق المارد من قمقمه ألا وهي: الصين والهند اساساً. فالأولى سيكون عدد سكانها عام 2020 ملياراً واربعمائة مليون نسمة، والثانية ملياراً وثلاثمائة مليون نسمة، وسوف تكون القوة الاقتصادية والعسكرية الضاربة لكل منهما قد اصبحت اضعافا مضاعفة بالقياس الى ما هي عليه الآن. ولكنها مع ذلك ستظل أقل بكثيرمن قوة الولايات المتحدة الاميركية. ولا يتوقع ان تحصل حرب عالمية بين هذه القوى العظمى. وهذا مؤشر ايجابي فريد من نوعه. ففي السابق كانت تحصل حروب عالمية كل قرن او نصف قرن..

اما السيناريو الثالث فيخص سيناريو الخلافة الاسلامية. كلنا يتذكر ان الرئيس الاميركي تحدث في أحد خطاباته الاخيرة عن احتمالية تشكيل خلافة اسلامية ممتدة من الاندلس (اسبانيا) وحتى اندونيسيا والشرق الاقصى! وقد استغربنا الأمر عندئذ وتساءلنا: من اين جاء جورج بوش بهذه الخرافة؟ وأعترف شخصيا بأني فوجئت كثيرا عندما سمعته يقول هذا الكلام. ولم أفهم من اين جاء به الا عندما قرأت هذا الكتاب فالواقع انه مستمد كليا من هذا التقرير الذي أستعرضه الآن.

اما السيناريو الرابع الذي يتوقعونه للعالم ويخشونه كل الخشية فيخص احتمالية توصل الجماعات الارهابية الى اسلحة الدمار الشامل من كيميائية او بيولوجية او حتى ذرية مصغرة واستخدامها في هجوم ضخم يذهب بمدينة اوروبية او اميركية بأسرها ويجعل من 11 سبتمبر عبارة عن مزحة صغيرة. وهذا السيناريو يرعب قادة العالم ولذلك فانهم سيفعلون كل شيء من اجل تحاشيه.

وهنا نصل الى مسألة القاعدة والحركة الاصولية بمجملها. في الواقع ان السيناريو يتوقع زوال القاعدة خلال الخمسة عشر عاما القادمة وحلول منظمات اصولية اخرى محلها. فالقاعدة كشبكة مركزية متماسكة للارهاب الدولي سوف تتفكك، ولكن ذلك لا يعني زوال الخطر الاصولي. على العكس، فقد يصبح أشد خطورة من ذي قبل، لانه لن يكون على شكل تنظيم مركزي يسهل الكشف عن بنيته الاساسية وبالتالي ضربه. وانما سيتخذ شكل الخلايا الصغيرة المنفصلة عن بعضها بعضا والمتوزعة على زوايا العالم الاربع. وعندئذ لن تربط بينه الجغرافيا وانما وحدة العقيدة الايديولوجية وتدمير الحضارة الغربية اذا امكن. وهذا الخطر الاصولي الجديد سوف يتصاعد ليس فقط في منطقة الشرق الاوسط وانما ايضا خارجها وبخاصة في منطقة جنوب شرقي آسيا (اندونيسيا، الفلبين، تايلاند)، وفي جمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقا، بل وحتى في اوروبا الغربية.

فهنا يوجد ما لا يقل عن خمسة عشر مليون مهاجر من اصل اسلامي وهؤلاء، كما يقول التقرير، يريدون الاستفادة من الحضارة الغربية على المستوى الاقتصادي والمادي ولكن دون ان يعتنقوا مبادئ هذه الحضارة التي يعتبرونها خارجية عليهم، بل ومعادية لعقيدتهم او على الاقل مضادة لطريقة فهمهم للدين الاسلامي.

لكن التقرير يستدرك قائلا: ان الأمة الاسلامية بالمعنى الواسع للكلمة لا تؤيد البرنامج الراديكالي للاصوليين المتطرفين. وبالتالي فيمكن القضاء على هؤلاء او تحجيمهم على الاقل عن طريق اشياء ثلاثة: جعل الانظمة السياسية في العالم العربي والاسلامي اكثر انفتاحا وتمثيلا لشعوبها، تطوير الاوضاع الاقتصادية في هذه البلدان من اجل تقليص مساحات الفقر والجوع، ظهور طبقة واسعة من الاصلاحيين والتنويريين المسلمين لمواجهة المد الاصولي المتزمت. اذا ما توافرت هذه الشروط الثلاثة فان افعوان الارهاب والتطرف سوف تقطع رأسه لا محالة.

ولكن سيناريو السلام الاميركي الذي قد يعم العالم ويقضي على الارهاب لن ينجح الا اذا استطاعت الولايات المتحدة ان تقنع الاتحاد الاوروبي والقوى العظمى الاخرى وبخاصة روسيا والصين بالانضمام الى مشروعها. وهو شيء ممكن ولكنه ليس مؤكدا. بالطبع فان نمو الاسلام الراديكالي سوف يكون ناتجا الى حد كبير عن عدم استفادة معظم الدول العربية والاسلامية من العولمة السائدة حاليا. يضاف الى ذلك ان زيادة عدد السكان في هذه الدول ووصول جيوش جرارة من الشباب الى سوق العمل ولكن بدون اي منفذ سوف يساهم ايضا في تصاعد المد الاصولي الراديكالي. وبالتالي فان المستقبل ليس مشرقا بالنسبة للعالم العربي اللهم الا اذا حصلت مفاجآت غير متوقعة. ولكن المستقبل على المدى البعيد: اي حتى 2050 سوف يكون مختلفا حتما. اما المشاكل الحالية التي يعاني منها العالم الاسلامي فلا يمكن ان تُحل خلال عشر سنوات او خمس عشرة سنة فقط.

وبالتالي فالاصولية الراديكالية مستقبلها امامها وليس خلفها.. هذا لا يعني بالطبع انه لن تحصل تطورات ايجابية في بعض البلدان العربية كالعراق ولبنان ومصر والسعودية.. الخ. ولكنها ستكون محدودة. ونلاحظ ان الماركسية سوف تتراجع في الصين وتنحسر كثيرا لكي تحل محلها المسيحية والبوذية، هذا بالاضافة الى العقيدة التاريخية للشعب الصيني بالطبع: اي فلسفة كونفوشيوس التي تعتبر الدين التقليدي للبلاد.

ولكن بعض الخبراء يقولون بان هناك اسبابا اخرى لتصاعد المد الاصولي في العالم الاسلامي غير الفقر والجوع والتكاثر السكاني وانسداد الآفاق المعيشية. لا ريب في ان الهجرة الكثيفة لسكان الارياف الى المدن والعواصم كالقاهرة، والدار البيضاء، وطهران، وكراتشي، واسطنبول وسواها ثم تشكيل حزام من الفقر وبيوت الصفيح حولها قد ساهم في تقوية الحركات الراديكالية المتزمتة. ولكن الاصولية تغذيها أسباب عقائدية وايديولوجية بالاضافة الى هذه الاسباب الاقتصادية والسوسيولوجية. فالكثيرون من شباب العالم العربي يصبحون اصوليين ليس على فقر او جوع وانما عن اقتناع عقائدي بضرورة تغيير هذا العالم الفاسد وحضاراته المنحطة في نظرهم. وبالتالي فلا ينبغي ان نختزل ظاهرة الاصولية الى مجرد عوامل مادية وفقر واقتصاد...

فكل الشباب الذين قاموا بضربة (11) سبتمبر كانوا اغنياء او متوسطي الحال. وما كانوا يشكون من اي مشاكل مادية. وقل الأمر ذاته عن قتلة السياح الاجانب في مدينة الاقصر المصرية عام 1997. وبالتالي فالشيء الذي دفعهم الى ذلك ليس الجوع وانما الحقد على الحضارة والحداثة بعد ان حشا الفقهاء والمتطرفون رؤوسهم بأفكار القرون الوسطى الظلامية. وقل الأمر ذاته عن اولئك الذين نفذوا العمليات القاتلة في لندن.. وكل قادة >القاعدة< الصغار ينتمون الى الطبقات الوسطى في مصر، او الاردن، او الباكستان، وأما قادتها الكبار كابن لادن وسواه فينتمون الى الارستقراطية المالية الشديدة الثراء.

والذين يدعمون هذا التنظيم الاصولي المتطرف هم تجار كبار في الخليج العربي وسواه، او محامون ومهندسون وشخصيات عليا في المجتمع الاسلامي. ولو كان الحل لمشكلة الاصولية هو مادي فقط فإننا نطرح على الجميع هذا السؤال: لماذا يظل عدد كبير من الاغنياء في العواصم والمدن البترولية يتعاطفون مع أطروحات بن لادن سرا ان لم يكن جهرا، هذا لا يعني بالطبع ان تجفيف ينابيع الفقر في العالم العربي لن يؤدي الى تجفيف ينابيع التطرف والارهاب على المدى الطويل. ولكن المشكلة اعقد من ذلك، وتدخل فيها عوامل مختلفة لا عامل واحد. ولا يمكن اهمال العامل اللاهوتي او العقائدي او الفقهي الطائفي فهو شديد الاهمية. ولذلك فإن تغيير برامج التربية والتعليم لا يقل اهمية عن تحسين الاوضاع الاقتصادية والمعيشية.

لا استطيع ان اتعرض هنا، وفي مقالة واحدة، لكل نقاط هذا التقرير الكثيف الذي يتنبأ بما سيحصل في جميع مناطق العالم بعد خمسة عشر عاما! ولكن سأتوقف لحظة عند البترول لأنه يهم العرب بالدرجة الاولى. يرى التقرير ان الاقتصاد العالمي، وبخاصة الاقتصاد الآسيوي الصيني ـ الهندي، سوف يشهد نموا متسارعا خلال هذه الفترة. وسوف تزداد بالتالي حاجته الى البترول بنسبة %50 عما هو عليه الحال حاليا. وربما حصل صراع او تنافس شديد على مناطق البترول الاساسية وبخاصة في بحر قزوين وفنزويلا وغرب افريقيا، وبالطبع الخليج العربي. ولن يكون الوصول الى البترول سهلا بسبب عدم الاستقرار السائد في هذه المناطق.

هل يعني ذلك ان الصورة ستكون قاتمة بالنسبة للعالم العربي كله؟ بالطبع لا. فالخبراء يتوقعون ان تتوصل بعض بلدانه الى الحداثة والديمقراطية. ولكنه لا يحدد ما هي. هل هي تركيا وايران فقط؟ ام ينبغي ان نضيف اليهما العراق ومصر مثلا؟ وهل يمكن ان نهمل التطورات الحاصلة تدريجيا في السعودية ودول الخليج؟ بالطبع لا. وماذا سيحصل للقضية الفلسطينية؟ هل ستكون قد حلت نهائيا عام (2020)؟ هنا نلاحظ ايضا انه لا يوجد اي جواب. بل ان التقرير العتيد لا يقول كلمة واحدة عن القضية الفلسطينية او عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي. وهذا التعتيم بحد ذاته مقلق ولا يدعو للارتياح.. ولعله هو السبب الذي يجعله يتشاءم بمستقبل المنطقة.

نسيت ان اقول في نهاية المطاف ان القرن الواحد والعشرين سوف يكون آسيويا، اي صينيا وهنديا بالدرجة الاولى مثلما كان القرن التاسع عشر المانيا والقرن العشرون اميركيا وان الاتحاد الاوروبي سوف يعاني من الشيخوخة اكثر فاكثر. ولا حل له الا باستقبال المزيد من الهجرة العربية لكي ينجبوا له الاطفال ويجددوا الاجيال!.. وبالتالي فمستقبل العرب سوف يكون في اوروبا ايضا وليس فقط في الشرق الاوسط او شمال افريقيا.