مستقبلنا الإنساني بين الجزء والكل

«مخطط القرن» في كتاب جديد

TT

أطلقت دورية «تخطيط الأعمال» على مؤلف هذا الكتاب بيتر سينج، اسم «مخطط القرن»، لكونه «واحداً من أربعة وعشرين رجلاً وامرأة ممن أثروا في طريقة تعاملنا مع عالم الأعمال حالياً». وفي كتابه الجديد «الحضور: الهدف الإنساني ومجال المستقبل»، الذي ألفه بالاشتراك مع أوتو شارمر، وجوزيف جاورسكي، وبيتي سو فلاورز، يوثق لتطور نظريات التعلم والتغيير الجديدة، ويقترح طريقة تمكننا من رؤية عالمنا بشكل مختلف، وفهم دورنا في تكوينه كما هو عليه، وكما يمكن أن يكون عليه.

من المتعارف عليه أن نقول إن الأشجار تنتج من الجذور، لكننا لم نحاول أن نفكر كيف لجذر صغير أن ينتج شجرة ضخمة؟، الجذور لا تحوي المواد الضرورية والمطلوبة والكافية لنمو شجرة كاملة، على الأقل لا بد من وجود بيئة متوسطة أو مناسبة لحجم الشجرة.، لكن الجذور تستطيع أن تفعل شيئاً بالغ الأهمية، وهو أن تزود الشجرة بمجال كاف يجعلها تنشأ وتتكون وتخرج إلى الوجود. هناك عوامل خارجية مثل الماء مثلاً، لكن الجذور هي من تنظم مدى تحكم الماء في عملية النمو. بكلمات أبسط، فالجذور هي البوابة التي تنشأ منها الاحتمالية المستقبلية للأشجار.

يعتم هذا الكتاب على الفهم الجيد لطبيعة الكل، وما هي الروابط التي تربط الجزء بالكل. نحن نفكر بشكل مخادع، فنعتقد أن الكل مكون من عدة أجزاء، مثلما تتكون السيارة من محرك وإطارات وخلافه. وبهذه الطريقة، فالكل معتمد اعتماداً كلياً على الجزء ليعمل بصورة جيدة وفعالة، وإذا توقف الجزء عن أداء مهمته، فإنه يجب إصلاحه أو استبداله.. ذلك التفكير «المنطقي»، يصلح جيداً للتطبيق على الآلات ونظم الميكنة، لكن الأنظمة الحية تختلف.

الأنظمة الحية مثل الجسد أو الأشجار، وعلى العكس تماماً من الآلات، تكون نفسها بنفسها. فلا تنشأ وتتكون وتتطور عن مجموعة من الأجزاء الصغيرة، بل تنمو وتتطور طوال طريق نموها هي وأجزاؤها الصغيرة. ومنذ مائتي عاماً تقريباً، أعلن المفكر والكاتب والعالم الألماني جوته، أنه ينبغي علينا التفكير في مسألة طبائع الكل والجزء بشكل مختلف تماماً. فبالنسبة لجوته، كان الكل شيئاً بالغ الحيوية والديناميكية ويظهر في جميع الأوقات بمظهر صلب وثابت. أما الجزء فيعكس خصائص الكل، ولا يعتبر مجرد مكوّن من مكوناته فحسب، ولا يمكن لكل من الكل والجزء البقاء من دون الآخر، فالكل يظهر في الجزء، والجزء غالباً ما يجسد الشكل الكليّ.

كان المخترع بوكمنستر فوللر، ولعاً بضم يديه وسؤال الناس: «ما هذا»؟، فيردوا عليه دائماً: «هذه يد»، فيبدأ فوللر في شرح وجهة نظره في أن الخلايا التي تكونت منها تلك اليد تموت وتعيد تكوين نفسها طوال الوقت، وهذا سار على أية ملموسات، فجميعها يتغير. في الواقع، ان اليد تتغير وتتكون مرة أخرى كل عام تقريباً، لذا فنحن على خطأ إذا اعتقدنا أن اليد أو الجسد كله أو أي نظام حي يمثل كياناً ثابتاً. قال فوللر: «تلك التي ترونها ليست يداً، بل كيان مشكّل ومكوّن، أو بمعنى أدق، تلك هي إثبات قدرة الكون على صنع أياد. وعلى ذلك فقد آمن فوللر بأن هذا الكيان المشكل هو الكل، وأن كل يد تظهر بمظهر صلب أو ثابت».

يؤمن روبرت شيلدريك، المتخصص بعلم الأحياء، بأن النماذج الأساسية المنظمة هي المجال الذي يشكل النظم الحية. ويقول شيلدريك ان جميع النظم المسؤولة عن تكوين وتنظيم نفسها، مهما بلغت من تعقيد أو بساطة، تحتوي على كل، ذلك الكل يعتمد على مجال مميز ينظم ذلك النظام. وعلاوة على ذلك، فذلك المجال المنتج يمتد إلى بيئته، ويربط بين الاثنين. على سبيل المثال، كل خلية تحتوي على حمض نووي يحمل معلومات عن الكيان الأكبر من التكوين الحي، ومع نضج تلك الخلايا، يتم تصنيفها مع خلايا العين أو القلب أو الكلية. يتم حدوث ذلك لأن الخلايا تكون نوعاً من الهوية الاجتماعية طبقاً لبيئتها الحالية وبما يتوافق مع الصحة العامة للكيان الأكبر في النظام الحي، وعندما تفشل واحدة من تلك الخلايا (الجزء) في تحقيق مهمتها، يفشل الكيان الأكبر في النظام الحي (الكل) في تحقيق مهمته. وعندما تفقد الخلية هويتها الاجتماعية، فستزج إلى قسم الخلايا غير المتعرف على وظيفتها، مما يهدد حياة النظام أو الكيان الأكبر، وذلك ما نعرفه باسم (السرطان).

نحن لسنا بحاجة إلى النظر إلى طبيعة العلاقة بين الكل والجزء بشكل ميكروسكوبي، لكي ندركها جيداً، فإذا نظرت إلى سماء المساء، فسوف تجد السماء كلها واضحة جلية من حيثما تجلس رغم أن قطر ومساحة بؤبؤ عينك لا تتجاوز السنتيمتر الواحد. فالضوء الذي تلقيه عليك السماء (الكل) حاضراً في مساحة عينيك الصغيرة. وحتى إذا كان قطر بؤبؤ عينيك أصغر بمقدار النصف أو حتى الربع، فسوف تتمكن من رؤية السماء ككل بذات الخصائص، وسبب ذلك أن الضوء الذي يلقيه الكل على الجزء حاضر في كل المساحات، بغض النظر عن مدى صغر ذلك الجزء. تبدو تلك الظاهرة واضحة جلية في الصور الهولوجرافية. فالصورة ثلاثية الأبعاد التي تكونت عن تقاطع وتفاعل مجموعة من أشعة الليزر، يمكن بسهولة قطعها من المنتصف، لكن سيبقى كل جزء من الأشعة المتقطعة حاملاً الصورة كاملة، وذلك أكثر الجوانب غموضاً في طبيعة علاقات الكل بالجزء، حيث عبر عنه الفيزيائي هنري بورتوفت قائلاً: «كل شيء في كل شيء».

مفتاح الوصول إلى مستوى أعمق من التعلم هو أن ندرك أن النظم الحية الأكبر والكلية، التي نمثل أجزاء نشطة فيها ليست بالفطرة ثابتة، بل هي، مثل أي نظام حي تحافظ على خصائص جوهرية ومهمة لاستمرار وجودها وعملية تطورها. فعندما نكون أكثر وعياً بديناميكية الكل، سنصبح أكثر وعياً بما سينتج عن تلك الديناميكية. وعندما ينتهي بنا الأمر إلى فهم طبائع العلاقات بين الكل والجزء، سنكون قد أدركنا أن «الجزء ما هو إلا مكان لحضور الكل»، وذلك هو الوعي الذي سلبنا إياه عندما قبلنا المنظور العالمي الذي يعتمد على الآلات والميكنة التي تعتمد على استبدال الأجزاء.