شاهد بريء على عالم في مخاض لا ينتهي

زمن أم كلثوم والحراك الثقافي والراهن السياسي السوري في «مرسال الغرام»

TT

أغنية أم كلثوم «الأمل لولاه عليَّ كنت في حبك ضحية»، كانت عنوان الفصل الأخير من رواية «مرسال الغرام» للروائي السوري فواز حداد، رواية استهلكت 500 صفحة من القطع الكبير، ورسمت بانوراما متنوعة وواسعة تقاسمت فضاءها تجليات الفن الرفيع والثقافات المستعارة والثورات الزائفة، بينما تفاوت أبطالها بين شخصيات تاريخية وحالية، وكومبارس لعب على صفحاتها أدواراً رئيسية.

يتولى سرد احداث رواية «مرسال الغرام»، لفواز حداد، الصادرة عن دار رياض نجيب الريس، راو ساذج تسوقه المصادفة ليكون شاهداً بريئاً على عالم في مخاض لا ينتهي، يتربع البطل «رشوم» في مقدمة الأحداث، يحركه الخبث ويدفعه الثأر لكرامته للإيقاع بغريمته الممثلة المعروفة «ناريمان»، التي تخوض معاركها مع التمثيل والفضائح على وقع صعود نجمها وأفوله، يهددها ظهور ممثلة ناشئة تدعى «تغريد»، تقذفها المغامرة من الزوايا المعتمة في حيوات شخصيات مهمة إلى حظوظ الفن الواعدة، ليكون فصل التحقيق معها من اكثر الفصول اثارة وسخرية لما يحمله من كشف عميق لأحط مستويات تماهي الحدود بين العهر والفن والثقافة والسياسة. كما يبرز الأعمى بائع الأفكار، ويمضي كقدر أعمى جاراً معه الرواية إلى الغموض، محاولاً التأثير على مصائر شخصيات تتحرك على أرض الواقع من خلال سيناريو يكتبه، مرتكزاً إلى وصفة مجربة، لم تعمل حساباً للحياة، ولا لإرادات البشر وحماقاتهم، ونزعة الشر الكامنة فيهم. وإذا كان قد نجح في دفع عجلة الواقع وجعلها تتسارع أو تتباطأ، فما الحل مع الخساسات البشرية؟!.

يقوم الحدث الرئيسي على محاولة رشوم تنفيذ نظرياته الصوتية من خلال مسلسل تلفزيوني، يرسل فكرته إلى غريمته ناريمان طالباً منها مشاركته التمثيل فيه، لكن سوء التفاهم الذي حصل بينهما في الماضي يثمر في الحاضر، فتضع ناريمان شرطاً لقبولها بأن يحصل رشوم على دليل يفصل في طبيعة العلاقة بين الشاعر احمد رامي وأم كلثوم. تفترق خطوط الرواية لتذهب في اتجاهات ومستويات عدة تتنوع زمانياً ومكانياً، فمن مصر الملكية إلى مصر عبد الناصر في عز توهجها القومي، إلى سورية مطلع الألف الثالثة، وجدل الإصلاح الدائر في محاولة لنمذجة ذلك الحراك، عبر تحويل شخوصه إلى أبطال روائيين ناجزين، يتحركون على خلفية حملة تتجدد من فترة لأخرى تكافح الفساد وتكشف عن آلياته وتسربه إلى المجتمع.

الرواية وحدها بوصفها فنا شاملا قادرة على رسم إطلالة عريضة على عصرين وشخصيات من الماضي وشخصيات من الحاضر، ما زالت على قيد الحياة، وفي الوقت نفسه استعراض لتاريخ من الغناء والطرب يبدأ بعبده الحامولي ولا ينتهي بأم كلثوم، بالإضافة إلى تمظهرات الفساد التوغل في تلافيف تركيباته السرية المعقدة. فالخط الأول الراهن أبطاله شخصيات متنفذة من المسؤولين والسماسرة الكبار والرجال القابعين على رأس الأجهزة الأمنية، مع محققين صغار ومثقفين متزلفين وفنانين صاعدين. يبرز من بينهم «م. ع»، وقريبه المتنفذ «ل.ع»، كنموذجين لجيلين تخلا عن طموحاتهما الثورية الطهرانية في أتون التنافس على المكاسب والصراع على السلطة والتسابق على النهب والإثراء. عندئذ تكون التساؤلات: ترى ما حقيقة الصراعات السياسية؟ وما أفكار العدالة الثورية التي ضحى لأجلها حالمون أبرياء؟.

تستطرد الرواية في توصيف شخصية «د. جيم»، المسؤول الخطير رجل المخابرات المكلف بمتابعة ملف الفساد، ليبدو الرجل الوحيد في أجهزة الدولة الذي يملك حسب الرواية، سجلاً ناصعاً خالياً حتى من البياض نفسه، وهو ما رشحه لمنصبه الخارق لا القرابة التي تجمعه بالجهة العالية، وإن كانت قد دعمته!، كما تسجل الرواية من خلال شخصيته ظاهرة الطلب المتزايد على شهادات الدكتوراه من أصحاب المراكز في السلطة ممن لا يهمهم علم ولا شهادات، بأنه ليس طلباً لوجاهة لا يفتقرون لها، إنما للتخلص من رهاب الشهادات العالية، بدعوى أن السلطة تتعرض إلى انتقادات وقحة من المثقفين المعارضين الثرثارين، وإذا كانت السلطة قد اختارت الدفاع عن نفسها بالأسلحة التقليدية: التوقيف والسجون، فقد حان الوقت لكي تنتقل إلى مرحلة الهجوم وتهاجمهم بالسلاح ذاته: الثقافة.

كذلك لم ينج المثقفون من مبضع الرواية من خلال محقق فُجِع بصلاتهم المشبوهة مع أعدائهم «الطبقيين» من المسؤولين، وشاء الروائي، أو ربما هو الواقع، أن يجعل هذا المحقق خلاف الكثيرين من رجال السلك الحكومي الأمني الذين لا يحترمون رجال الفكر ويرون أن بضاعتهم الكلام، ووطنيتهم جعجعة، ويرتشون بجوائز أدبية تافهة ومناصب صغيرة. كان المحقق على الضد منهم، يحسد الذين انخرطوا في الثقافة والسياسة ويحس بضآلته أمامهم. ويحمل ضعفاً خاصاً نحوهم، واحترامه لهم مشوب بالرهبة، بل ويعتقد بأنه يمت إليهم بصلة قربى، فقد كاد أن يكون واحداً منهم في الأيام الخوالي، قبل أن يدرك بأنه إذا كان لا بد من المبادئ فينبغي توخي الحذر منها.

الخط الثاني في الرواية يمثل عودة إلى زمن أم كلثوم، برفقة طيف من الشخصيات الفنية والثقافية والسياسية، وما بين الخطين يتحرك البطل رشوم ليكون الرابط المحدد للتزامن بين خطي الماضي والحاضر والتنقلات الواسعة بينهما، تضيئها أصداء التيارات الفكرية والسياسية والثقافية لأجيال توافدت إلى السلطة عبر الثورات ودعوات التحرر، ممتطية الأفكار القومية والأممية والعدالة الاجتماعية التي مثلت أوج تألقها في عصر عبد الناصر، زمن أم كلثوم البهي المهيمن على الرواية. يأخذ السجال والحوارات بين البطل وأم كلثوم ورامي حيزاً تتحاور فيه الأزمنة والأفكار، مما يمكن الروائي من إطلاق أسئلته حول الفن والحب بين عالمين، راحل ومستمر. كيف يقولب العصر العواطف، ما الذي يعنيه الفن، كيف تذهب الموهبة إلى الدعارة، ومآل العدالة الثورية، ومصائر أبطالها؟.. لا تهدف الرواية للغوص في علاقة أم كلثوم ورامي، إنما ما تثيره العلاقة من تداعيات جوهرية، ومع هذا حرص الروائي على توثيق سيرة أم كلثوم سواء بالحقائق، أو بما دار حولها من أقاويل وشائعات، فأورد قصص زواجها المزعومة، وعلاقتها بخال الملك فاروق، والملحن محمود الشريف، وزواجها بمصطفى أمين، وإشكاليات تعاملها مع كتاب قصائدها وملحنيها. وعمل بشكل أساسي على صوتها، وصناعة أغانيها بمشاركة عباقرة رافقوا حياتها الفنية، وأدائها على المسرح وارتباطه بحالتها العاطفية.

رح الهائل للفن الحقيقي، استعارته الرواية ليشكل عصب الرواية، بمعنى المرجعية الرئيسية للأسئلة المضيعة للحب والفن والثورة والعدالة، وفضائها المتأرجح بين زمن كأنه لم يمض وزمن كأنه لم يأت بعد، وحياة يبدو أنها تتغير، لكنها مجرد حركة تختلج في مكانها بين دمشق كمسرح للحدث الراهن، والقاهرة كمسرح افتراضي.

لا تتوقف رواية «مرسال الغرام» عند الفساد، بل وتلعب دوراً في الحراك الثقافي والسياسي السوري الراهن، الذي تعكسه الصحافة عبر كتابات مثقفين لا يفتقرون للمغامرة والمخاطرة. رواية فواز حداد تُعنى بالسياسة والتاريخ، وتتصدى للراهن، وتتأمله من خلال غرام ملتبس ومشبوب، وحب لا يشبه الحب، وفن لا يشبهه فن، لتتمم ما قدمه من قبل في روايته «موزاييك» عن دمشق 1939، و«تياترو» عام 1949، الذي شهد انقلاب حسني الزعيم، أول واخطر انعطافة في الحياة السياسية السورية، و«صورة الروائي» التي وثقت لمرحلة صعود البعث وما رافقه من انقسامات، فيما قدمت «الضغينة والهوى»، الصراع مع الغرب خلال الخمسينات على خلفية التهافت على نفط الشرق الأوسط.