حين يقول العالم «كفى» للثقافة الأميركية

«اليونسكو» تحتضن الاحتجاج والدولة العظمى تزأر

TT

نفت لويسي اوليفر، سفيرة أميركا في رئاسة «اليونسكو» في باريس، خلال مؤتمر تلفوني مع صحافيين في واشنطن، الاسبوع الماضي، نية أميركا الانسحاب من المنظمة، لأنها وضعت شروطاً لتوزيع الافلام والمسلسلات والموسيقى الأميركية في الدول الاخرى (اتفاقية حماية وتطوير تنوع التعابير الثقافية). لكن السفيرة الأميركية قالت أيضاً إن القرار «اثار بعض الأسئلة، وانا سأبحث الموضوع عندما اعود الى واشنطن». فلماذا غضبت أميركا من اتفاقية تحفظ للشعوب حقها في صون ثقافاتها الخاصة، وقررت أن تقف ضدها بمعية إسرائيل فقط،في مواجهة العالم.

إذا انسحبت أميركا من «اليونسكو» هذه المرة اعتراضاً على «اتفاقية حماية وتطوير تنوع التعابيرالثقافية» التي تكبح جموح تجارتها الثقافية، تكون قد سجلت انسحابها الثاني. فقد انسحبت الولايات المتحدة من المنظمة سنة 1984، بقرار من الرئيس ريغان بسبب تفشي الفساد وبسبب محاولات لعزل اسرائيل (عادت قبل سنتين، بعد غياب عشرين سنة). ولو أعادت أميركا الكرة، فسيكون السبب هذه المرة هو رفضها اجماعا عالميا، لم يسبق له مثيل، لحماية التنوع الثقافي، لم تصوت معها ضده سوى إسرائيل مقابل موافقة 148 دولة.

حتى بريطانيا خالفت أميركا

وقال د. أسعد أبو خليل، وهو أميركي لبناني واستاذ علوم سياسية في جامعة كاليفورنيا ستيت، لـ«الشرق الاوسط»، ان «أميركا تناقض نفسها عندما تصر على عدم وضح عراقيل امام نشر ثقافتها، وتصر، في نفس الوقت، على منع دول، مثل فرنسا، من المحافظة على ثقافتها. نعرف كلنا ان الثقافة الفرنسية عريقة وساهمت مساهمة كبيرة في نهضة وتنوير اوروبا، قبل ان تكون هناك ثقافة اميركية. حتى بريطانيا عارضت اميركا».

عارض تيموثي كرادوك، سفير بريطانيا في اليونسكو، التعديلات الأميركية، واعلن: «نقدر الآن على ان نقول ان التنوع الثقافي، خاصة بالنسبة للدول الفقيرة، أصبح حقا من حقوقها. واجبنا ان نحمي هذا الحق، وواجبنا ان نحافظ عليه».

ووصف أبو خليل تهديد اميركا بالانسحاب من اليونسكو بأنه «بلطجة»، وربطه بقرارات اخرى يرى فيها تناقضا، مثل وضع عراقيل امام استيراد الملابس الرخيصة من الصين، واستيراد الصلب الرخيص من البرازيل. وربطه، ايضا، بمواقف سياسية اميركية يرى فيها تناقضا، مثل تأييدها لخطط اسرائيل التوسعية.

التنوع لا تحفظه القوانين

لكن جورج ويل، كاتب عمود في جريدة «واشنطن بوست»، وينتمى الى الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري، قال ان «الخطأ الاساسي في تصويت اليونسكو، هو ان الثقافة لا تعرف بقانون، واذا عرفت، لا تنوع بقانون، واذا نوعت لا يحدث ذلك بتصويت سياسي في منظمة عرف عنها عداؤها لأميركا».

وعاد ويل الى منطق اميركي قديم، وهو ان اميركا لعبت الدور الرئيسي في تأسيس اليونسكو. هذا صحيح تاريخيا، والشاعر الاميركي ارشبولد ماكليش هو الذي كتب دستور اليونسكو، وبدأه بعبارة ان «الحرب تبدأ في عقول الناس، وفي عقول الناس يجب ان ترسى دعائم حماية السلام».

لكن هل معنى هذا ان تصبح اليونسكو اداة في يد اميركا؟ وهل معنى هذا ان تصبح الامم المتحدة اداة في يد اميركا، لأنها لعبت الدور الرئيسي في تأسيسها؟

المحافظون وسياسة المحافظة الثقافية

زادت، خلال العشرين سنة الماضية، قوة المحافظين داخل الحزب الجمهوري، وزادت قوة الحزب الجمهوري نفسه، وهو يسيطر الآن على البيت الأبيض وعلى الكونغرس بمجلسيه: الشيوخ والنواب.

ويدعو الجمهوريون الى المحافظة على «الثقافة الأميركية ذات الجذور الاوروبية». ويمثل هذا التيار الفكري بات بيوكانان، الصحافي السياسي الذي ترشح لرئاسة الجمهورية قبل ثماني سنوات، وأعلن في ذلك الوقت ان اميركا تواجه «حربا ثقافية»، عندما عارض حملة «التنوع» (قادها مثقفون ومفكرون سود دعوا الى وضع اعتبار للحضارات غير الأوروبية).

لكن الجمهوريين لم يهتموا بنشر الثقافة الأميركية في الخارج. بالعكس، بيوكانان يقود تيار «الانعزالية»، ويعارض زيادة الوجود العسكري الاميركي في الخارج (كان واحدا من عدد قليل من قادة الحزب الجمهوري، الذين عارضوا غزو العراق).

لماذا، اذا، اصبح الجمهوريون، اولا، يدعون لنشر الثقافة الأميركية في الخارج، وثانيا، يرفضون وضع اي عراقيل امامها؟

المال سرّ الانتشار

أجاب د. ابو خليل بأن اميركا «اصبحت تحرص على نشر ثقافتها في الخارج حماية لمصالح شركات الانتاج السينمائي والتلفزيوني والموسيقي. هذا، يأ اخي، هو سر كل هذا الحديث عن العولمة، والانفتاح، وازالة العراقيل».

وقال ان الافلام والمسلسلات والموسيقى الأميركية، انتشرت في العالم «ليس بسبب الذوق الراقي والقيم العالية»، ولكن لأن الاميركيين «يملكون قدرات مالية وتنظيمية هائلة». وأضاف د. أبو خليل ان الفيلم الاميركي يكلف، في المتوسط، مائة مليون دولار، بالاضافة الى مائة مليون دولار للدعاية له. وسأل: «من يقدر على هذا غير الاميركيين؟ ولماذا افلست استوديوهات فرنسا والهند ومصر؟».

وقال ان افلام الحرب والجريمة الأميركية انتشرت وسط الشعوب، ليس لأن الشعوب تحب الحروب والجرائم، ولكن لأن الأميركيين قادرون على انتاج أفلام عملاقة ومثيرة، تلفت الانظار.

وذكّر أسعد ابو خليل بالإقبال الشديد على المسلسل التلفزيوني الكرتوني «سمبسون»، رغم انه يتمحور حول عدم الاهتمام بالذوق والقيم، ويصور عائلة اميركية غير مثالية، لا تهتم بالنظام والنظافة. ويكثر «هومر» سمبسون من شراب البيرة، ومن استعمال الألفاظ البذيئة. ويقدم ابنه «بارت» مثالا للصبي غير المسؤول.

«شمسون» على «إم.بي.سي»

عندما علم البرت جينز، مخرج مسلسل «سمبسون» بأن قناة تلفزيون «ام.بي.سي» العربية تحذف اجزاء من المسلسل احتراما للتقاليد العربية والقيم الاسلامية، قال: «اذا لم يشرب هومر البيرة، ولم يتصرف مثل الخنزير، لن يكون هومر».

وكانت قناة «ام.بي.سي» قد غيرت اسم المسلسل من «سمبسون» الى «شمسون»، وغيرت اسم البطل من «هومر» الى «عمر»، وغيرت اسم الصبي من «بارت» الى «بدر». واصبح البطل يشرب الكولا بدلا من البيرة، ويأكل السجق المصري بدلا من لحم الخنزير.

ونشرت جريدة «وول ستريت جورنال» الأميركية، مقالة تقول ان هذه التغييرات سببت نقدا وسط بعض الأميركيين، لكنها اشارت، في المقابل، الى زيادة إقبال مشاهدي التلفزيون العرب على المسلسلات الأميركية. ونقلت الجريدة على لسان شيرين الحكيم، التي تعمل مع شركة في لندن، متخصصة في مجال ترجمة ودبلجة الافلام والمسلسلات، قولها ان العرب «يريدون ان يكونوا مثل الغرب»، ويقبلون «اي شيء يرونه رمزا او ترجمة للثقافة الغربية».

لكن يبدو ان بعض الاميركيين لا يريد فقط توزيع المسلسلات الأميركية في الخارج بدون قيود، ولكن ايضا بدون اي تغيير، حتى اذا اساء ذلك الى التقاليد والعادات العربية. أي نشر الثقافة الأميركية حتى اذا اساءت الى الثقافات الأخرى.

الإنتاج التلفزيوني

العربي بدل التحوير

شاهد د. أبو خليل، حلقات من مسلسل «سمبسون» المترجم، إلى العربية، وانتقد «تقديم برامج للمشاهد العربي تصعب ترجمتها، ويستعصي فهمها، ولا تقدم فائدة حضارية او اخلاقية»، واقترح الاستعاضة عن هذا التحوير غير الموفق، بزيادة الاستثمار في تطوير المسلسلات والنتاجات التلفزيونية العربية، مما يغني عن الاضطرار إلى عرض برامج اجنبية من هذا النوع.

في السنة الماضية، باعت شركات انتاج السينما والتلفزيون والاغاني الأميركية ما قيمته اكثر من 16 مليار دولار الى الشعوب الاخرى. وتعارض هذه الشركات ما تسميه «تدخل» اليونسكو من أجل حماية الانتاج الثقافي المحلي، وتضغط على الحكومة الأميركية لإلزام كل دول العالم بقوانين «منظمة التجارة العالمية»، التي تهدف الى فتح الابواب امام التجارة الحرة.

لكن لويسي اوليفر، سفيرة اميركا في اليونسكو، نفت ان تكون لمعارضتها، صلة بأرباح الشركات الأميركية، وقالت ان اميركا «تقف صامدة في سبيل مبادئها، وفي سبيل الحرية».