ملحمة «جلجامش» تعود إلى الإنجليزية بحلة جديدة

TT

باحث السومريات أي. آر. جورج أخرج موسوعته «ملحمة جلجامش البابلية» في مجلدين ضخمين عن «دار أوكسفورد»، أواخر عام 2003، بعد أن أصدر نص الملحمة الشعري وحده قبل ذلك بفترة قصيرة عن «دار پنغوين». الإصدار الأول كان للقارئ العام الذي يتطلع لقراءة خالصة للشعر. ولقد قدم جورج عددا من نسخ الملحمة بدءاً من النسخة البابلية المبكرة، التي نقلت عن السومرية الأصلية حتى النسخة الأخيرة المعتمدة، التي كتبها الشاعر سِنْ ـ ليك ـ يونينّي، الذي عاش في منتصف الألف الأول قبل الميلاد. أما الإصدار الثاني، فقد كان أكثر تخصصاً. على أن النسخة المعتمدة كانت، وعلى امتداد سنوات طويلة، مصدر إلهام لعدد من شعراء الإنكليزية تجاوزوا عدد أصابع اليدين. منهم من حاول الترجمة الأمينة لكلمات النص من لغته الأصلية نثراً أو شعراً. ومنهم من حاول استعادة القصيدة الملحمية عبر لغته هو، ومنهم من استلهم النص من أجل نص شعري جديد، يتماهى مع رؤية عصرية شديدة الشخصية، كما فعل ديريك هاينيس.

عن دار Profile Books صدرت هذه الأيام محاولة جديدة أخرى من هذه الترجمات الشعرية الانكليزية، قام بها الشاعر والكاتب ستيفن ميتشيل. وهو غزير الإنتاج، متنوع الاهتمامات، خاصة في حقل الأدب الانساني القديم، التوراتي، الصيني والهندي.

ترجمة ميتشيل الجديدة للملحمة العراقية لم تعتمد النص الأكدي، فهو لا يحسن تلك اللغة. ولكنه اعتمد مجموع الترجمات الحديثة للنسخة المعتمدة، وخاصة في ترجمة أي. آر. جورج السابقة الذكر. ثم ملأ الفراغات الناقصة من نسخ الملحمة الأسبق، الى جانب التتمات التي أملتها اجتهاداته الشعرية، من دون أن يخل بالأمانة للنص القديم. لقد أراد لترجمته هذه أن تكون شعرية، تستجيب لذائقة القارئ العادي، والقارئ المتخصص على السواء. على أن بعض نقاده من الصنف الثاني عابوا عليه بعض اجتهاداته التي اعتبروها تجاوزات. نويل مالكولم في «الصاندي تلغراف» وجد بعض مقاطعه محاكاة لروح الرواية الحديثة، ولكن بصورة رديئة، خاصة فيما يتصل بمحاولته إضفاء إيحاءات سيكولوجية، أو إيحاءات سياسية. ولكن معظم العروض النقدية الأخرى وجدتْها، كما وجدتُها، يسيرة ومتدفقة، ومستغنية عن الشروح والهوامش. على أن المترجم استفاض بالهوامش، وقد وضعها في خاتمة الكتاب، إشارة الى انتفاعاته من النسخ الخمس المعروفة وترجماتها العديدة. لقد حاول ميتشيل أن يخرج بصيغة شعرية صافية وتامة من مجموع النصوص المختلفة، كما وضع للكتاب مقدمة تحليلية غاية في الحيوية بفعل المعلومة والتأملات النقدية، يتابع فيها حكاية الملحمة، التي سبقت ملاحم هوميروس المتأثر بها بألف عام: من عرض حضور جلجامش الفائق القوة والجبروت على أهالي مدينة أوروك، حتى مجيء إنكيدو البدائي المروّض من قبل شامخا، ليكون نداً ثم صديقاً، ثم شريكاً لجلجامش في مغامرة القضاء على الوحش هامبابا، حارس غابات الأرز. ومع موت إنكيدو يدخل بطل الملحمة معضلة الموت، ووحده يرحل بحثاً عن سر الخلود. يعبر بحار الموت الى الحكيم الخالد يوتنابِشْتم الناجي من الطوفان، وحين يحصل على سر الخلود في نبتة، ثم يفقد النبتة التي تلتهمها أفعى، يعود خاسراً في الظاهر الى أوروك، ولكن رابحاً في الباطن حكمة العصور: ان الإنسان يخلد بالعمل الخالد.

هذه الترجمة تمنح أكثر من فرصة للتوقف عند أكثر من محطة شعرية للتأمل. تقول أمه نِنْسن:

منحتني يا إله السماء ابناً معافى، جميلاً وشجاعاً،

فلم أثقلته بالقلب المضطرب؟

وحين يموت إنكيدوا يطل عليه:

يغطي وجهه بوشاح كوشاح عروسٍ،

وحوله يحوّمُ جلجامش مثل نسرٍ،

يتقدم خطوة اليه ويرجع عنها

مثل لبوةٍ ترقب أشبالها في الشرك. على أن النص الشعري في مجمله لا يستهويك بهذه المحطات التأملية وحدها، بل بزخم الدلالات الرمزية والإيحائية في طيات الحدث وعلاقات الشخوص جميعاً. متعة تتجدد مع كل ترجمة جديدة.