حلم فيلسوف المعماريين حسن فتحي تبخّر بين قريتين

«القرنة» تحولت إلى «خربة»

TT

رغم أن إحياء تراث المعماري الفذ حسن فتحي بمقدوره أن يغير حياة الكثيرين، إلا أن الرجل نبذ بطريقة لا يمكن فهمها، ليس فقط أن الجامعة طردته من مناهجها، لكن حتى القرية التي اقامها بنفسه وأرادها نموذجاً حياً لنظريته في البناء، عبثت بها أيدي الخراب. فهل يمكن أن يكون اغتيال فكر حسن فتحي مجرد صدفة؟

«القرنة: قصة قريتين» هو العنوان الأصلي الذي اختاره شيخ المعماريين الراحل حسن فتحي للكتاب الذي وضع فيه فلسفته في البناء، وقد كتبه بالإنجليزية ونشرته وزارة الثقافة المصرية في طبعة محدودة جداً عام 1969، والعنوان الشائع للكتاب «عمارة الفقراء» كان من اختيار «جامعة شيكاغو» التي نشرت الكتاب عام 1973، ومن بعدها «الجامعة الأميركية» في القاهرة عام 1989. ثم تصدى لترجمته للعربية تحت نفس العنوان الشائع د. مصطفى إبراهيم بدوي، وصدر في عدة طبعات منها طبعة مكتبة الأسرة في «الهيئة العامة للكتاب»، فترسخ في الذهن أن عمارة حسن فتحي كانت للفقراء دون غيرهم. وعندما تعددت البيوت التي صممها حسن فتحي في المدن العربية المختلفة وكان منها لأمراء وأثرياء، كانت هذه نقطة النقد التي تناولها، من لم يتفهموا نظريات حسن فتحي. المعماري الذي لقب بشاعر العمارة، وشيخ المعماريين وفيلسوفهم، وألقاب أخرى تؤكد فرادته.

كان لا بد ونحن نتحدث عن فتحي في ذكرى ميلاده الخامس بعد المائة (ولد عام 1900 وتوفي عام 1989)، أن نعود لأطروحته، لنتفهم أن العمارة للفقراء كانت جزءاً أساسياً من فلسفة لها بعد شمولي عام.

فقد توجه فتحي في البداية لفلاحي العالم ومالكي الأراضي أيضاً، ووضع نظرية تتسم بالعدل بين أجزائها، أثبتت نجاحها لاحقاً في الريف والصحراء والمدن الجديدة، وطبقت أفكاره، بعد رحيله في غير مكانها. يقول فتحي في مؤلفه: «هذا الكتاب دعوة لموقف جديد لإصلاح الريف. إن مستوى المعيشة بين فلاحي العالم الفقراء، فقراً مدقعاً، هو ما يمكن رفعه بواسطة البناء التعاوني، الذي يتطلب تناولاً جديداً... وهذا التناول فيه ما هو أكثر من خالص الأمور التقنية... فهناك مسائل اجتماعية وحضارية ... وهناك المسألة الاقتصادية، وعلاقة المشروع بالحكومة، ولا يمكن أن تترك أي من هذه المسائل... والصورة الشاملة ستتشوه بحذف أي منها».

سقف للجميع

وحينما وضع حسن فتحي «الطوب اللبن» كأمل وحيد لإعادة بناء الريف، فهو الطوب الذي يُحفر من الأرض ويُجفف في الشمس، ويظل مادة بناء متوفرة، تأكد له أنه الحل لمشكلة السكن، خاصة بعد أن ذهب في رحلة معمارية إلى الأقصر جنوب مصر، وتفحص صوامع قمح الرامسيوم. وهي مخازن طويلة مقبية بنيت من الطوب اللبن منذ 3400 عام، وبدت له كمادة تتحمل تحملاً جيداً. ومن هنا نشأت فكرة أن يكون الطوب اللبن للجميع، فيقول فتحي «في كل عشة وكوخ متداع في مصر، كانت الإجابة على مشكلتي. فهنا طيلة السنين والقرون ظل الفلاح يستثمر بحكمة وهدوء مادة البناء الظاهرة، بينما نحن بأفكارنا الحديثة... لا نحلم أبداً باستخدام مادة مضحكة هكذا مثل الطين، لعملية خلق جدية للغاية. مثل المسكن.

ولكن لم لا؟ من المؤكد أن بيوت الفلاحين قد تكون ضيقة ومظلمة و...، ولكن هذا ليس نتيجة خطأ من «الطوب اللبن». فليس هناك ما لا يمكن إصلاح أمره... لماذا لا نستخدم لبيوتنا في الريف هذه المادة... ولماذا ينبغي أن يكون هناك أي فارق بين بيت الفلاح، وبيت المالك؟ هيا نبنيهما معاً من الطوب اللبن، ونصممهما معاً تصميماً جيداً، وسوف يمكن لهما معاً أن يوفرا لمالكيهما الجمال والراحة».

كان جوهر نظرية حسن فتحي، استخدام عناصر البيئة المحيطة في البناء وعدم اللجوء لأي عنصر مستورد، وبالتالي ضمان بناء متوافق مع البيئة، ومنخفض التكاليف. هذا ما يؤكد عليه المعماري المصري د. طارق والي أحد تلامذة حسن فتحي، والذي لا يزال يتحدث عنه بوصفه «حسن بك» احتراماً له، فيقول إن هذا ما كان يطلق علية فتحي «يبني من تحت رجليه»، فقد استخدم الأساس دوماً من الحجارة، تحديداً الحجارة الجيرية، والبناء من «الطوب اللبن»، ثم التسقيف بالأقبية، بالطوب اللبن أيضاً، وبدون استخدام أي مشدات خشبية أو زلط أو اسمنت أو حديد تسليح. وحينما توفر سعف النخيل أمام فتحي أثناء عمله في تصميم وبناء قرية باريس بالواحات الخارجة، استخدمه في التسليح. فقد اكتشف فتحي في رحلاته ان ما يبنى في أسوان هو ما يبنى في الإسكندرية، بدون اعتبار لتغير المناخ والبيئة، لذا حينما كانت تجود عليه البيئة المحيطة بشيء مختلف كان يستخدمه، كاستخدامه للحجر الرملي أحياناً. بينما الناس تعتقد أن فكر فتحي هو الأقبية فقط، ويأخذون عليه بناءه للأغنياء وينسون أنه مهندس يشيّد للجميع، ويطبق نظريته على الكل، فلا يبني إلا بما يقدمه له المكان.

نهج الشيخ إلى اندثار

ويؤكد د. والي على معنى البناء التعاوني الذي هدف إليه فتحي، فقد علم الناس كيفية البناء بأنفسهم، وكان يؤمن بأن عشرة أشخاص معاً قادرون على بناء عشرة بيوت، أما الشخص الواحد فلن يستطيع بناء البيت الواحد، وهذا ما استطاع تحقيقه على أرض الواقع.

ويضيف د. والي «إن عمّال البناء اليوم الذين يتقنون البناء بالطوب اللبن بطريقة حسن فتحي أصبحوا قلة، ويطلبون الكثير من المال، لإقامة البناء الذي هدف فتحي في الأساس أن يكون منخفض التكلفة، وذلك لأن طريقة البناء نفسها آخذة في الاندثار برغم بقاء التجربة حية. كذلك فإن ثقافتنا العامة التي تشجع شعبان عبد الرحيم وتهجر أم كلثوم، لن تكون في سبيل إحياء تراث فتحي للأسف».

وسألت د. والي عن حلم فتحي في البر الغربي بمدينة الأقصر، الذي كتب لأجله كتابه وتمثل في قرية «القرنة الجديدة»، التي بناها لأجل انتقال سكان قرية «القرنة» اليها. هؤلاء الذين كانت بيوتهم فوق مقابر الآثار مباشرة، وكان اقتصادهم بتعبير فتحي ذاته «يعتمد تقريباً اعتماداً كليا على سرقة القبور... وكانوا من أبرع وأنجح اللصوص».

لكن لم ينتقل الأهالي للقرنة الجديدة وتركوها خراباً، سألت د. والي، هل كان السبب الوحيد، هو عدم رغبتهم في ترك بيوتهم التي تبيض ذهباً، واقعاً لا مجازاً، فأجاب بأن هذا كان السبب الرئيسي، لكن هناك أسباباً أخرى، غير متاجرة أهل القرنة في الآثار قبل صدور قانون الآثار، مثل كون أهل القرنة جبليين اكثر مما هم زراعيون، وكان من الصعب عليهم التحول تماماً لمجتمع زراعي. كما أن القرنة الجديدة أقيمت قبل بناء السد العالي، مما كان سيعرضهم للفيضان سنوياً. فالمسألة بالنسبة لهم لم تكن مجدية على المستوى الاقتصادي نهائياً، ولم يكونوا مستعدين لتغيير نمطهم العمراني والاجتماعي. وأكد د. والي على أن فكر فتحي كان يحارب أيضاً، لأنه فكر جديد ومختلف، فلم تعط له الفرصة ليقنع الناس بما أتاهم به.

الجامعات طردته من رحمتها

أما لماذا لا يدرس الأسلوب المعماري لفتحي في كليات الهندسة إلى اليوم، فأجاب د. والي «نظرياً لا يوجد ما يمنع تدريس أسلوبه، خاصة أنه نجح كما رأينا في الريف والصحراء والمدن الجديدة، بل وتطبقه الآن القرى السياحية الترفيهية، أي في غير ما قصده فتحي إطلاقاً. لكن المناهج في كليات الهندسة مستوردة في حقيقة الأمر، جميعها مناهج وأساليب غربية. والمهندسون لدينا يتخرجون ليطبقوا ما تعلموه فقط، أي نحن نحتاج لكسر هذه الحلقة المغلقة. ولدينا ما يسمى بسيكولوجية الأستاذ، فمن يدرس بطريقة لا يوجد لديه أي استعداد لأن يصبح تلميذاً من جديد».

وربما ما سكت عنه د. والي، هم أولئك الذين يربحون من وراء مصانع الإسمنت وحديد التسليح، ولا يريدون لفكر فتحي أن ينتشر فتبور سلعهم ويشفى الناس من أمراض الرئة. أما القرنة الجديدة التي بناها حسن فتحي في الأقصر، فقد شاهدت مبانيها التي شوهتها الأجيال الجديدة التي سكنتها، ولم تتدخل الحكومة التي تحدث فتحي عن دورها قبلاً، بشيء قط، فمنها ما تم هدمه تماماً واستبداله ببناء حديث بالطوب الأحمر والإسمنت وخلافه، ومنها ما احتفظ مالكوه بالأسوار الخارجية فقط ، أو بالطابق الأول في افضل الأحوال، ثم بنوا فوقه بعد إزالة الأقبية، ولم يتبق غير المسجد وقصر الثقافة، والسوق القديم المهجور إلا من الجمعية الزراعية، وبيت أو بيتين، يشهدان على حلم شيخ المعماريين الذي تبخر في الهواء.