«هآرتس» احتفلت بمئوية إبراهيم طوقان وسط تجاهل فلسطيني

استمرار الحجر على قصائده الممنوعة

TT

ليس من سوء نية، على الأرجح، في تجاهل الفلسطينيين لذكرى ميلاد أحد أهم شعرائهم، ابراهيم طوقان. ولم يكن الأمر ليبدو نافراً ومعيباً إلى الحد الذي ظهر عليه، لولا أن صحيفة عبرية في إسرائيل خصصت له ملفاً كاملاً، وبقي طوقان بين أهله منسياً، لا بل وممنوعة بعض قصائده، لأنه تجرأ وقال، ذات يوم، ما لم يقو عليه الآخرون.

تقترب سنة 2005 من الزوال، من دون أن تحرك المؤسسات الثقافية الفلسطينية، ساكنا للاحتفاء بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان. وتجاهلت الصحف الفلسطينية المناسبة، ولم تشر إليها طوال الأشهر الماضية، ولم تعدّ ملفات خاصة بطوقان، الذي يعتبر من أبرز الشعراء الفلسطينيين في القرن العشرين. وكان من اللافت أن تخصص صحيفة عبرية هي هآرتس ملفا عن طوقان، ضمنته صورة لغلاف النسخة الأولى من ديوانه الذي صدر في بيروت عن دار «الشرق الجديد»، وتحقيقا عن المنزل الذي ولد فيه في نابلس، وخرج منه بالإضافة إلى شقيقته الشاعرة فدوى طوقان.

وكشفت الذكرى المئوية لطوقان، عن أحد أوجه قصور الثقافة الفلسطينية والعربية، ولم تستغل المناسبة لتسليط أضواء على شاعر مجدد، لم ينصفه النقد العربي، وإذا كان ذلك لا يحتاج إلى مناسبة، فإن مبادرة كالإفراج عن قصائد الشاعر الممنوعة، في المرأة والمجتمع والسياسة، بمقدورها ان تكون بمثابة تحية كبيرة للشاعر الراحل في مئويته، وتأكيدا على حق القارئ، في الاطلاع من دون وصاية أو رقابة من احد.

وطوال سنوات كانت قصائد طوقان (السرية) تتداول شفهيا لدى جمهور محب للشعر، ولكن مع تراجع هذا الجمهور وتغير ذائقته، فإن من مهام المؤسسات المعنية، نشر تراث طوقان كاملا، لتكتمل صورته.

نشأة متوترة وتعليم حديث

ولد إبراهيم عبد الفتاح طوقان عام 1905 في مدينة نابلس، وهي مدينة عربية عريقة توصف بأنها دمشق الصغرى، وتقع في شمال الضفة الغربية. جاءت ولادته ونشأته في مرحلة فارقة في التاريخ الفلسطيني والعربي، نهاية الإمبراطورية العثمانية حيث حكم دعاة الطورانية والذين ناصبوا القومية العربية العداء، والاحتلال البريطاني على فلسطين، حيث شهدت البلاد ثورات فلسطينية متتالية ضد الهجرة اليهودية وللحيلولة دون إقامة «وطن قومي لليهود»، كما رأى الإنجليز مهمتهم في فلسطين، وفقا لوعد بلفور.

ويمكن أن يشير ذلك إلى العوامل المؤثرة في شعر وحياة طوقان، يضاف إليها، البيئة المحافظة في نابلس، حيث ولد لعائلة ذات تقاليد عريقة، ورثت مثل غيرها تراث قرون من الموقف من المرأة والمجتمع والدين والسياسة.

والتحق طوقان بالمدرسة الرشادية الغربية في نابلس، وهي المدرسة التي تميزت، حسب ما ذكرت فدوى طوقان، في كتابها (أخي إبراهيم) بمناهجها الحديثة في التعليم، الذي لم يكن مألوفا آنذاك.

وكان ذلك، كما يقول الأديب الأردني يعقوب العودات (البدوي الملثم) بفضل «بعض المدرسين النابلسيين الذين تخرجوا من الأزهر وتأثروا في مصر بالحركة الشعرية والأدبية التي كان يرفع لواءها شوقي وحافظ ومطران. فأشاع هؤلاء المدرسون روح الشعر والأدب الحديث، وأسمعوا الطلاب، للمرة الأولى في حياتهم الدراسية، قصائد لشوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وفتحوا أذهانهم على أسلوب إنشائي جديد، فيه رونق وله حياة، يختلف اختلافا كبيرا عن ذلك الأسلوب القديم الذي كان ينتهج في مدارس نابلس والذي لم يكن ليخرج عن كونه أسلوبا تقليديا عميقا، لا تأثير له، ولا غناء فيه».

وفيما بعد تبين، من مسيرة طوقان، انه ذهب أبعد من ذلك في حداثته ومغامرته الشعرية، والتي لم يبن عليها من لحقوه من الشعراء الفلسطينيين.

وبالإضافة إلى المدرسة، كان للقرآن الكريم دور تأسيسي في فترة البناء اللغوي لدى طوقان، وهو ما تحدث عنه لاحقا: «الجميل في رمضان عندي خاصة أنني أقرأ فيه القران، وأقرأه كله، هذا ما أصنعه في كل سنة وأتلذذ به فأصقل به لغتي، ونعم صقال القرآن. وتستوقفني بعض التراكيب فارجع إلى كتب البلاغة فأتفقه بكشف أسرارها وتشتكل علي بعض المعاني فارجع إلى سيد المفسرين، أستاذ الدنيا، جاد الله محمود الزمخشري، فأصدر عنه ريان شبعان وأتنبه إلى طرفة تاريخية فأرجع إلى أبي جعفر محمد جرير الطبري، فأنسى نفسي بين أحاديثه ورواياته. هذا فضل رمضان علي، وهكذا أحسن استغلال شهر كامل في مدينة نابلس».

اخجلي يا عواصف

وبعد أن أنهى إبراهيم طوقان دراسته في نابلس، درس أربع سنوات في مدرسة المطران في القدس، ولم تكن أقل تأثيراً في حياته من سنوات دراسته الأولى في نابلس. والتحق طوقان بالجامعة الاميركية في بيروت خلال سنوات (1923 ـ 1929) خلال إقامته هناك، نظم النشيد الشهير (موطني) والذي يقول في مطلعه:

موطني الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك

وما يزال هذا النشيد يتردد حتى الآن، ويكشف من خلال بنيته الفنية وموضوعه، التأثيرات التي تعرض لها طوقان، في تلك الفترة، وانفتاحه على الآداب العالمية، وعلاقته بقضايا تتجاوز فلسطين إلى العالم العربي. وفي هذه الفترة، ظهر نشيده (بطل الريف) عن الأمير المغربي عبد الكريم الخطابي، وثورة المغرب المتأججة آنذاك في عام 1924.

وعاد إبراهيم إلى نابلس مدرسا وشاعرا متحققا، له أسلوبه الشعري الذي يصل القاعدة العريضة من الجمهور من دون التنازل عن فنيته.

وفي فلسطين، وجد نفسه في خضم النضال ضد الحركة الصهيونية، وتصلح قصائده في تلك الفترة، للتأريخ لما كان يحدث، وفي أحيان كثيرة تعتبر أفضل مما كتبه المؤرخون.

وهذا الجانب من شعر إبراهيم طوقان معروف، ولكن الإشارة واجبة هنا إلى تطوره الفني اللافت، واستفادته من تراث الموشحات، ليكتب قصيدة مثل (الفدائي) التي يصفها البدوي الملثم بأنها فاضت «مقاطعها بالأسى المرير والعاطفة المشبوبة».

ومطلع هذا الموشح ـ القصيدة:

عبس الخطب فابتسم

وطغى الهول فاقتحم

ولكن إحدى ذرى طوقان الفنية كانت في قصيدته الشهيرة التي استعانت بها الدراما السورية، العام الماضي، لتكون المقدمة الغنائية لمسلسل (التغريبة الفلسطينية)، وفيها يقول واصفا أحد الفدائيين الفلسطينيين:

من رأى فحمة الدجى

أضرمت من شرارته

حملته جهنم طرفا من رسالته

هو بالباب واقف

والردى منه خائف

فاهدأي يا عواصف

خجلا من جرءته.

ووصف الأخطل الصغير هذه القصيدة يوم 9 حزيران (يونيو) 1930 في صحيفة البرق بالقول «أتعرف شيئا عن الشاعرية المتوثبة التي تجيش بها النفوس الظمأى إلى حرياتها؟ أتعرف شيئا عن البلاغة تطلقها الشفاه الملتهبة دما ونارا؟ تعرف إليها إذن».

بيروت مرة أخرى

ولم يطق إبراهيم طوقان فراق بيروت كثيرا، فعاد إليها أستاذا في الجامعة الاميركية، وفيها عرف شعره الهجائي لزعماء الحركة الوطنية الفلسطينية التقليديين. وهو نوع من الهجاء السياسي الحاد، لم يعرفه الشعر الفلسطيني فيما بعد. فحتى أكثر الشعراء ثورية لم يبخلوا في مدح أو الإشادة بزعماء منظمة التحرير الفلسطينية (معين بسيسو ومحمود درويش وسميح القاسم وهارون هاشم رشيد مثالا).

وقارن طوقان بين زعيم الهند المهاتما غاندي الذي يقود، مخلصا، نضالا لا هوادة فيه ضد الاحتلال البريطاني لبلاده، وزعماء الحركة الوطنية الفلسطينية الذين يمثلون العائلات الإقطاعية ويهادنون الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية.

ويمكن الإشارة إلى أن طوقان كان في كثير من قصائده يستشرف ماذا سيحدث في فلسطين، ليس لأنه نبي، ولكنه كان فاهما لطبيعة وموازين القوى.

ولم يعش طوقان ليرى صدق نبوءته التي تحققت عام 1948، لأنه توفي يوم 12 شباط (فبراير) 1941، وعمره 36 عاما.