المسلسلات الرمضانية السورية وثالوث: الشعر.. المرأة.. الموسيقى

TT

بدا الشعر عنصراً حيوياً في بعض المسلسلات الرمضانية السورية هذا العام. هناك من وظفه ليصنع منه عملاً جذاباً يشد المتفرجين، وثمة من جعله يتمفصل مع السياسة والمرأة ليقدّم رؤيا تتجاوز الزمن وتخترقه بقوة. ونعثر أيضاً على من فضله مغنى وملحناً، فلعبت الأغنيات دور البطولة الخفرة، فهل خدمت المسلسلات الشعر حقاً، أم هو الذي أنقذها من السقوط.

نموذجان بارزان هذا العام، هما مسلسل «نزار قباني» لقمر الزمان علوش، اخراج باسل الخطيب، و«ملوك الطوائف» لوليد سيف وحاتم علي.

تناول الأول السيرة الذاتية للشاعر نزار قباني. أي أن العمل قائم على الشعر، بالتالي كان من المفترض رصد المرحلة وتفاصيل الشخصية وظروفها المحيطة وصولا إلى نتاجها الشعري، إلا أن العمل لم يقدم أي جديد بل اكتفى بالعموميات، مظهرا علاقات نزار النسائية بشكل سطحي.

نزار قباني

فجميع من يقابلهن نزار، يقعن في حبه من النظرة الأولى سواء لشخصه أو لشعره، رغم ذلك بدت الشخصية وكأنها تدور في مدار خاص بها، وحدها، دون وجود بنية عميقة للشخصيات المحيطة، التي تحولت إلى أسماء وبعض أفعال تسند الشخصية الرئيسية فقط، فلا نعرف سوى ملامح عامة عن أصدقائه، نسائه، زوجاته، أبنائه. هذا جعل الملامسة سطحية في عرض علاقات الشاعر بالآخرين، وفي ولوج تعقيدات المرحلة وغليانها الثقافي والسياسي والتحولات الاجتماعية والصراعات. كل ذلك تم المرور به وبتأثيراته سريعا. وكأن الأحداث على اختلافها، هي خارج دائرة ما يعرض، بالتالي تم عزل الشاعر عن عناصر تكوينه التي طورته وأنتجت شعره. ورغم محاولة المخرج خلق صورة شاعرية تناسب نزار، من خلال الورود المتناثرة دائما على الأرض والسرير والبيانو... إلا أنها لم تكن كافية لإغناء الشخصية وإبرازها، وإظهار ما كانت عليه من حيوية وفاعلية. ويقع اللوم في هذا على الكاتب في الدرجة الأولى وعدم قدرته على سبر عوالم الشخصية وتوظيف الحوادث المحيطة وظرفها، مما أثر على أداء الممثلين، تحديدا تيم حسن الذي أدى دور الشاعر نزار قباني، وكان بارعا في أدوار سابقة إلا أنه هذه المرة افتقر إلى معرفة الشخصية من الداخل، فاكتفى بتقليد شكلها وحركاتها...

ملوك الشعر

في المسلسل التاريخي «ملوك الطوائف»، تم توظيف الشعر لإغناء العمل ورصد المرحلة وتبدلاتها وصراعاتها، ليس من خلال الشخصيات السياسية فقط بل والشعراء أيضاً، فكان ابن زيدون أولاً، شاعراً ومستشاراً ووزيراً في قرطبة، تألق في علاقته مع ولاّدة أيام الوصل ومن ثم الهجر. ومع تقلب الأحوال ودخول ابن زيدون دوامة الصراع السياسي سُجن ثم هُمش بعد هربه ولجوئه إلى المعتضد.

من خلال هذه الشخصية التي برع في أدائها الممثل جمال سليمان، وقدمها بإتقان جذب المشاهد إلى العمل، مأسوراً بطبيعة العلاقة بين الشاعر والسلطة، الشاعر والمرأة، وكذلك الناس على اختلافهم، ضمن حبكة غنية وحوارات ذكية ليست جديدة على الكاتب وليد سيف، فلكل شخصية حيزها وتداعياتها ومنطقها ولغتها.

كما أن النظرة إلى طبيعة العلاقات لم تكن أحادية الجانب أو محصورة في نموذج واحد، لنرى الشاعر ابن عمار وتحولاته بعد أن كان فقيراً يبحث عن قوت لدابته، وما أصبح عليه من أمور الحكم والتدبير عن طريق الوزارة ليعلن عصيانه، فيما بعد مما يبدل حاله في عهد المعتمد بن عباد. وهو شاعر أيضاً شغلته شؤون الدولة والنزاعات. فالعمل يحكي عن فترة ملوك الطوائف في الأندلس، تحديداً اشبيليا في زمن الصراعات السياسية القصوى، حيث كانت الصفة الأساسية، هي الانقسامات والشرذمة، وبداية انهيار الممالك الإسلامية، وعلى الطرف الآخر كانت فترة تنامي القوى الإسبانية. في هذه اللحظة ظهر ما يسمى المرابطون في المغرب (يوسف بن تاشفين) وهي دعوة إسلامية الطابع وحدت المغرب تحت لوائها ثم زحفت باتجاه الأندلس وسيطرت على كل الممالك العربية، ونفت كل هؤلاء الملوك بمن فيهم المعتمد بن عباد.

حكاية تاريخية في شكلها تتضمن قراءة للماضي والحاضر واستقراءً للمستقبل، وإسقاطات تتناول النزاعات والضعف الناتج عن الانقسام بين ملوك وطوائف العرب والتدخل الأجنبي، والتيار الديني. الجوقة (غير المرئية) التي تتجول بين الناس تحكي حالتهم ومصابهم، لعبت دوراً مهماً، منذ المشهد الأول، الذي رصد مراكش عام 2005 وخروج الجوقة من التاريخ ثم العودة اليه للربط بين الماضي والحاضر، والدعوة إلى البحث عن الطاغية، كذلك استخدمت لترديد أبيات من الشعر. والجدير بالذكر هنا دور الموسيقى التي قام بتأليفها طارق الناصر، وقدرتها على إبراز جمال الشعر، مما أغناه ونوّع طرق تقديمه فكان أكثر وقعاً.

مشاهد مجلس ولادة، لم تركّز فقط على علاقتها بابن زيدون، بل وبرجال السياسة لتقوية نفوذها وسلطانها وترسيخه، وبذلك تكتمل صورة المجتمع ونظرته إلى المرأة وما يطرح حولها ومن خلالها، وارتباط الشعر بها. بالتالي قدم المسلسل علاقة متداخلة بين الشعر والسياسة والحياة مصوراً بنية متكاملة قادرة على قراءة المرحلة وتداعياتها.

عصي الدمع

ومع تبدل صورة المرأة وظرفها سواء في «ملوك الطوائف» أو «نزار قباني» ومجالس الشعر، إلى الموسيقى وواقع المرأة الحالي في المسلسل الاجتماعي «عصي الدمع» لكاتبته دلع الرحبي ومخرجه حاتم علي.

مسلسل هادئ، يطرح بعمق وبأساليب جديدة إشكاليات قانونية ومفاهيم اجتماعية ودينية مغلوطة، تؤثر سلباً على حياة المرأة أولاً ومن ثم المجتمع، من خلال نماذج مختلفة: رغم ذلك هي فعالة ضمن المتاح لها، ومع أنها تبدو ظاهرياً في وضع جيد تتمتع بحقوقها، الا أنها مضطهدة مع اختلاف الأساليب سواء من الرجل أو المجتمع.

فهناك في المسلسل، المطلقة ونظرة المجتمع لها وحقوقها المهدورة قانونياً، كذلك القاضية النزيهة وما تعانيه لإيجاد توازن بين واجباتها المنزلية ومسؤوليتها تجاه ابنها وعملها. وثمة عائلة منغلقة تفرض حصاراً على بناتها، واحدة تبحث عن أي زوج، وأخرى عن استقلالها المادي وخياراتها الحياتية. وكذلك هناك العانس وما تعانيه، ومغنية الأعراس والموالد، وصولاً إلى المحامية رياض العمري وزوجها المثقف العاشق للموسيقى صاحب الأفكار التحررية والحضارية بشكل ظاهري مبالغ فيه أقرب إلى التنظير، وعند أول محك يعود إلى مفاهيمه الشرقية المغلوطة ويفرض رغباته دون أن يأبه لزوجته، وإن قام بفعل طبيعي غير معتاد في مجتمعنا مثل الطبخ يمنّ عليها به.

في الوقت الذي يركز فيه العمل على المرأة لا يهمش الرجل أو يظهر سلبياته فقط، بل يعرض بشكل موضوعي آلية تفكير سائدة لدى الرجال والنساء ابتداء بمن يعتبرون المرأة «حرمة» وانتهاء بالنموذج المثقف، مروراً بنماذج أخرى أقل أو أكثر تشوهاً.

وبالعودة إلى أجواء الشعر والموسيقى، نجد العمل قائماً منذ البداية على الموسيقى ومهدى إلى «الملكة.. أم كلثوم»، بالتالي اعتمد موروثاً له جمالياته وتداعياته وأصوله المرتبطة بمجتمعاتنا. وعن طريق المهندس رياض المرادي نتعرف إلى الموسيقى الكلاسيكية العالمية وسير مؤلفيها. وما بين أم كلثوم والأنغام الغربية، ثمة في المسلسل خلطة متنوعة من الأغاني الرائجة في يومنا هذا، بما يتناسب مع طبيعة المنزل وما يعرض في الفضائيات أو الشارع أو في السيارة أو في المناطق الشعبية حيث يصدح صوت علي الديك. وأكثر ما يميز العمل أنه دمشقي بامتياز، يرصد البيت والحياة والعائلة الدمشقية. فهي بيئة حافظت حتى اليوم على خصوصيتها وعاداتها، حتى خارج الحارة القديمة والبيت الشامي والخمار الأسود.. والانطلاق في المسلسل، من اشكاليات المجتمع المديني، بمشاغله المستجدة، فتح الباب أمام قراءة أشمل. وجدير بالذكر كم المحجبات المتزايد في الأعمال الدرامية، فهم جزء لا يستهان به في مجتمعنا، ولا يمكن تجاهله خصوصاً مع تزايده بغض النظر عن الأسباب.

خيمة رمضانية

ازداد حضور الأعمال التلفزيونية السورية على أغلب القنوات الفضائية، لتثبت تطورها على الصعيد الفني والتقني، وتضاءلت، بشكل جلي، الأخطاء المتعلقة بالصورة والإضاءة وحركة الكاميرا... مما رفع سوية المشاهد وذائقته، وجعله أكثر قدرة على الانتقاء. لكن هذا التواصل لا بد أن يعتمد على متابعة واعية للعمل الدرامي وليس عشوائية يفرضها الازدحام في شهر رمضان، فتحتكم المتابعة إلى المزاج الشخصي أحياناً أو حسب الصحبة أو توقيت العرض أو ما يعرض ضمن الخيمة الرمضانية التي نرتادها.