المرأة والكتابة عن الذات: تجربة الألم والفقدان

ليلى أبو زيد ونوال السعداوي وأليغريا بندلاق في جوانب من سيرهن الذاتية

TT

ليلى أبو زيد: الذات كوجود وكهوية تشخص ليلى أبو زيد علاقتها بكتابة السيرة الذاتية من زاويتين: أولاهما أن السيرة الذاتية في المغرب ظلت لفترة طويلة أدبا مستهجنا لا يقبل عليه أحد «لأن كاتب السيرة الذاتية لا ينفك يقول أنا»، وأنها واقعية اللغة والموضوع كذلك. وثانيتهما ترتبط بوضعية المرأة في المخيال الثقافي العربي باعتبارها «عورة» و«محصنة»، واقعة تحت الحجاب أو بدون صوت مميز يستظهر ذاتها وهويتها.

وتؤكد، بناء على ذلك (1) أن كتابتها للسيرة الذاتية لم تكن واردة بالمرة لأنها «امرأة في مجتمع ظلت فيه المرأة تاريخيا ولأمد طويل مستعبدة وساكتة»، فلم تتح لها الفرصة الا بناء على طلب من الاميركية اليزابيت فرنيا التي عرضت عليها كتابة نص حول طفولتها فكان نص «رجوع الى الطفولة»، مع تأكيدها على أنها لم تكن لتكتب هذا النص، الذي لم تتدخل فيه كما تقول، عملية الرقابة الذاتية، لو كان موجها للقارئ العربي.

ومن أولى الصور الثابتة للطفولة في هذا النص، من حيث اقترانها بذكريات معينة، ما يخص المكان، بحيث تعود بنا الساردة الى تلك الأجواء المترتبة عن اعتقال (أحمد أبو زيد/الأب)، وما نتج عن ذلك من خصومات عائلية كانت أمها ضحية لها. كما يمكن أن نجد في هذا النص كثيرا من الصور الملونة العالقة بالذهن، امعانا في التعبير عن مرحلة ولت، لا تستعاد الا على نحو غائم أو ما يوحي بالتباعد والنسيان.

كما يشدنا النص الى علاقة الساردة بمحيطها الخاص، أي علاقتها بأمها (الحب) وعلاقتها بالأب (السجن) وعلاقتها بالماضي ككل (الاستذكار)، الى جانب مظاهر العالم الخارجي الذي يؤطر وجودها (المدرسة، اللعب، التعلم) الذي يوحي في النص بفكرة الاكتشاف ويحمل الى المعرفة بعدا تواصليا حميميا خاصا.

أما الجانب المهم فهو المتعلق بالذات كوجود فردي وكهوية في نفس الوقت: لقد تكونت الطفلة في نطاق أسري مضطرب، وكان اعتقال الأب «من طرف النصارى» أحد أسبابه المباشرة، وسيستمر النص على هذا الاضطراب، وان يكن بصيغ ايديولوجية تعلي من بعض القيم المثالية، الى نهايته. هناك منظومة من الذكريات، سواء في اتصالها بالماضي كمرحلة منقضية تخضع للاستعادة، أو في نحت منظور منسجم للمرحلة الطفولية، تجعل من الطفولة حالة مشروطة متخلية أو مفارقة تجانب الحقيقة التي تود المؤلفة ابلاغها الى القارئ.

ويبدو لي من خلال كثير من القرائن أن المؤلفة من خلال كل ذلك لا تتأمل ذاتها ولا تستبطن ذكرياتها، وانما تعيش حالات متغايرة تنم عن التصدع والانفلات، وهو ما ينعكس تعبيريا على طبيعة الذكريات المسرودة التي تبدو في أغلبها مرويات انتهت الى سمعها. ولهذا أيضا تجد الشخصية الطفولية على حال من الفقدان المستديم.

نوال السعداوي: درجات الوعي الممكن عندما كتبت نوال السعداوي سيرتها الذاتية (2) طرحت على نفسها سؤالا محددا يتعلق بعاطفتها الذاتية: «ما جدوى أن أكتب عن قصة حب ماتت منذ أربعين سنة؟ مدفونة كالمومياء في بطن الصحراء على بعد آلاف الأميال في شمال افريقيا؟». ولكنها تؤكد تلقائيا أن الأوراق التي تؤلف ذكرياتها وعوالمها هي حياتها وحلم طفولتها وشبابها، بل هي الذكريات التي تحبها رغم الألم.

وتعتبر نوال السعدواي أن الكتابة كانت لها منذ الصغر ملاذها الوحيد «أهرب اليها من الأم والأب والعريس»، وبقيت هذه الكتابة في كهولتها أيضا هي الملاذ الوحيد والأخير في نفس الآن، بل هي التصالح الممكن مع الماضي والحاضر ومع «كل ما أصابني في الوطن من جراح».

ان الكتابة فعل فردي ولكنها حالة وجودية كذلك. تحرك نوال السعداوي القلم في يدها وتكتب: مرور ثلاثة وستين عاما من عمرها من دون أن تدري لها حسابا، أجزاء من هذا العمر سقطت في العدم، لحظات تريد الفرار والاختفاء بعيدا عن الذاكرة وأعين الناس، لحظات الألم واليأس والضعف والانحدار. بل ونجد الكتابة، بهذا المعنى، معبرا نحو ادراك الاثم، اثم التفكير أو الاحساس أو مجرد التفكير، ولكنها تبدو في جميع الأحوال ضرورية مثل التنفس.

ولهذا الاعتبار جاءت سيرتها الذاتية، من هذه الزاوية، بمثابة حلقات من الاستذكار المنبعث من جميع حلقات الحياة الماضية المدركة، أي من تاريخ الميلاد الى تاريخ الوجود، تاريخ الكتابة وزمنها الحاضر، بحيث تستظهر الكتابة المعاش والمفكر فيه والمحلوم به في دائرتين متكاملتين: الأسرة والمجتمع بما فيهما من مستويات ومراتب ومعاناة. على أن العنصر الملفت في هذا الاستذكار هو ما يرتبط بتحولات الذات من عذابات استثنائية ترتبط بوضعية المرأة في مجال العلاقات التقليدية المحافظة، وما تتسبب فيه هذه من استغلال وعذاب وهوان. وربما كانت تجربة الختان في هذا السياق من أعنف التجارب الخاصة التي مرت بها نوال السعداوي.

ومن المفهوم أن كتابة السير الذاتية بقدر ما تستجلي الألم الذاتي وعذاباته المقررة على مستوى الحياة الشخصية، تحرر الذات من شعورها الآثم بالدونية والاستعباد. ولا يتعلق الأمر بسلطة الكاتبة، من خلال اللغة، على مجال كتابتها الذي هو مجال حياتها الخاصة فقط بل وكذلك من خلال الأثر الذي يحدثه التذكر البعدي في أفق زمني مختلف يقع على مسافة مؤكدة من جميع الذكريات المعاشة، بحيث تتحول الكتابة هنا الى درجة من درجات الوعي الممكن بالوجود الماضي من خلال الأثر الذي يحدثه التذكر البعدي في أفق زمني مختلف يقع على مسافة مؤكدة من جميع الذكريات المعاشة، بحيث تتحول الكتابة هنا الى درجة من درجات الوعي الممكن بالوجود الماضي من خلال الحاضر. ان نوال السعداوي تتكلم عن الختان كواقعة جارحة تقع على الذات في الزمان والمكان وفق تقاليد وأعراف معينة مغرقة في القسوة، ولكنها تستعيد هذه الواقعة المؤلمة بعد أن تحررت منها وصاغتها في قالب نقدي يدينها كممارسة اجتماعية مهينة.

أليغريا بندلاق: تاريخ الأنا بوصفه هوية تستعرض أليغريا بندلاق (3) في سيرتها الذاتية «فسيفساء» علاقتها الذاتية الحميمة بمدينة تاريخية تبعث فيها كثيرا من السحر (طنجة)، ولا يتعلق الأمر في هذه السيرة بالذكريات الخاصة التي خلفتها المدينة في وجدانها مع ما لهذه الذكريات من أثر على الشعور الخاص بالاغتراب والترحل فقط، بل وأيضا بالبحث عن الهوية المفتقدة والمقتلعة في نفس الوقت: اليهودية التائهة بامتياز كما تقول أليغريا بندلاق عن نفسها، فقد ولدت في كاركاس من أسرة يهودية مغربية تتحدر من سلالة اليهود الذين طردوا من اسبانيا، تربت في طنجة، وتعيش في نيويورك، وتعمل في بينسيلفانيا، بجوار سفر هولندي..... امرأة موزعة ثقافيا ولغويا بين فرنسا واسبانيا والمغرب واليهودية والولايات المتحدة الاميركية.

تستعيد هذه السيرة الذاتية الجذور الأولى التي كانت في أساس التكون السلالي (أسرة يهودية أندلسية نزحت الى تطوان في القرن الخامس عشر الميلادي)، وتتدرج، على نحو خطي يراعي مجالات التكون والحياة، من الطفولة الأولى الى سنوات التعليم وظروف الحرب والمراهقة والحياة الاجتماعية والثقافية في المدينة الدولية. وترتبط هذه الاستعادة بتجربة خاصة هي من صميم الوجود اليهودي في المغرب، بما كان لهذا الوجود من ظروف خاصة (الذمي) في المجتمع المغربي المسلم. ولعل العنصر البارز في هذه الاستعادة هو الفقدان: الماضي الدولي الزاهي بعد أن انقضت مباهجه بفعل التحولات اللاحقة، الشعور الطفولي بالرغد والامتنان والانطلاق وقد أصبح أثرا، الاحساس الذاتي المزدوج بالعيش والتعايش في نطاق أسرة يهودية وفي دائرة مجتمع مسلم... وهكذا.

ولهذا تبدو كتابة السير الذاتية ذات أبعاد خاصة: فهي بقدر ما تستذكر الماضي المعاش لتشخيص مراحله وتحولاته وأوضاعه من خلال الذات وعبرها تبتدع، في نفس الآن، مجالات شعورية ونفسية لتعويض الفقد المستمر الذي تكابده هذه الذات في علاقتها بالمكان والماضي والذكريات... الخ. وحين تحقق اللغة هنا قدرا من الامتلاء تتحقق معه حالات من الشعور الذاتي بالتملك، وخصوصا عندما تقول الكاتبة: «انني أفكر باستمرار في هذا الوسط الذي سبحت فيه طفولتي، والذي لم يعد اليوم موجودا كحقيقة معاشة بل كمحارة خغرافية ما فتئ الجمال يشهد عليها... وعلى اليوم، بعد كل هذا الوجود الذي عشته (عايشته) بجذور جوية، أن أعثر على سبيل، اماما وخلفا، نحو حقيقة أخرى يمكن أن أتطابق معها بنفس التطابق التام الذي أحققه مع طنجة في جولاتي وتسكعاتي. علي أن أصبح واحدة موحدة لا في الوهم بل في الواقع بصورة نهائية» (ص 204).

لم يعد الماضي موجودا ولكنه أضحى حالة وجدانية، ويمكن اعتبار الذكريات منقضية في الزمن ولكنها باقية كالوشم في تلافيف الذاكرة الحافظة، أما اللغة التي تترجم عواطف الارتباط بجميع الرموز المستهامة والأوضاع المعاشة فتؤكد حقيقة أدبية ممكنة: أعني أن السيرة الذاتية تجربة ذهنية لبناء تاريخ الأنا بوصفه هوية.

من المؤنث إلى العلامة اللفظية تستنتج ميرسيدس ديل أمو (4) من خلال بحث أجرته حول «الكتابة بالمؤنث الجمع: النساء العربيات والأدب»، أن الموضوعات التي تدور عليها الكتابة النسائية في العالم العربي ترتبط بثلاث قضايا: وصف صراعهن الخاص في البحث عن هويتهن كنساء، صراعهن ضد الرجل، وصراعهن ضد قيم المجتمع التقليدي...الخ. وترى هبة شريف (5) أن هناك ظواهر مشتركة تكاد تكون جامعة لمعظم النصوص التي تندرج تحت أدب المرأة، فهو أدب ملتزم تكتبه امرأة واعية بقضايا المرأة، وكذا بقدرته على تخطي محدودية التجربة الذاتية ليربطها بقضايا انسانية أعم وأشمل، وأنه يرتبط بالتجربة الذاتية في الواقع الفعلي للمرأة الكاتبة، وهو لذلك كثيرا ما يحمل ملامح بيوغرافية من حياة هذه الكاتبة.

ومهما كانت طبيعة الخصائص التي تقرن عادة بالكتابة التي تنتجها المرأة وخاصة في المجال الابداعي، فان المهم في تقديري الشخصي هو علاقة هذه الكتابة بالوعي الشخصي الناتج عن ظروف الوجود في ثلاث دوائر متداخلة: امرأة/رجل، امرأة/علاقات، امرأة/مجتمع، مع الاعتبار بأن هذا الوعي الشخصي يجسد في حقيقة الأمر درجة فهم الكائن البشري لنفسه (امرأة/ ذات).

تحدد القاعدة النحوية أن المؤنث يحتاج الى علامة لفظية ظاهرة أو مقدرة تزاد على صيغته لتدل على تأنيثها وتأنيث صاحبها، بينما لا يحتاج المذكر الى ذلك لأن الذي يدل عليه هو الشهرة وشيوع الاستعمال. وهذا تمييز يدل على الرتبة التي افترضها النحاة للمذكر على حساب المؤنث للتعبير عن الخصائص المميزة لكل منهما على حدة، ولو أولنا التمييز المقعد لوجدنا في المؤنث ما يفيد انبناءه على الخصاص والحاجة المقدرة، لأنه لا يكتمل الا بالزيادة، كما أن صفته ليست منه بل ملحقة به. فيتحصل من ذلك شيء مفيد وهو أن التعبير بالمؤنث هو تعبير بالصفة (المرأة هنا) وتعبير بالعلامة اللفظية (لكي يصبح مؤنثا حقيقيا) في نفس الوقت.

ومعنى هذا أن المرأة حين تكتب عن نفسها فانها تبدو من الوهلة الأولى في حاجة دائمة للتعبير عن نفسها من خلال امتلاك اللغة، وتحتاج كذلك الى شعورها بذاتها ككيان مختلف لاثبات وجودها.

ولذلك يبدو لي أن اللغة وصفة الوجود هما المحددان البارزان للنشاط الكتابي المفهوم هنا كنشاط ذهني وثقافي.

في الكتابة عن الذات تبدو المرأة، من خلال نماذج السير الذاتية التي قدمنا، على درجة من الوعي النقدي بوضعية ذاتها في اطار العلاقات والمجتمع المحيطين بها. وامتلاكها للغة الكتابة هو تملك جوهري للأداة التي تمكنها من التعبير عن الحياة الشخصية في مجراها العام والخاص بصيغة مؤنثة كعلامة لفظية ظاهرة (في العلاقة بقارئ مفترض)، وهو ما لا يمكن أن يتأتى بصيغة أخرى كالتعبير بالمذكر مثلا. ولو استعدنا ما قلناه قبل قليل عن الدوائر التي تحكم وجود المرأة لوجدنا، بطبيعة الحال، أن وجودها الخاص يبدو محكوما بثلاثة مظاهر: الدونية (علاقتها بالرجل)، الاضطهاد (وجودها ضمن علاقات تتسم بالاكراه) والقمع (علاقتها بالمجتمع). ولذلك يبدو تعبيرها عن هذا الوجود، على الأقل من خلال السير الذاتية المعتمدة في هذا المقال، من باب النزوع الى ايجاد بدائل شعورية وذهنية تتحرر بها الذات من جميع القيود المانعة لتطورها المستقل. وتعود ليلى أبو زيد الى ماضيها لفهم المجالات الخاصة التي تطورت فيها تجربتها كطفولة محرومة وشقية، وهي تركز بذلك نوعا من الوعي الممكن حيال التطورات المفترضة في علاقتها بالأسرة والترحل بين المدن وسجن الأب، مع الافتراض، بطبيعة الحال، أنها تبلور من خلال ذلك كله هوية مختلفة تستجيب لدرجة وعيها النقدي بما قاسته في تجربة الحياة والمعاناة. وتكتب نوال السعداوي، بعد أن حولت الكتابة عن الذات الى موقف وجودي، عن شعورها الدائم بالإثم حيال ماضيها وتجاربها في الحياة، وهي اذا تستعيد طفولتها وذكرياتها العاطفية والنفسية والحياتية فانما لكي تتحرر بالكتابة من أثقال الماضي الأليم، ساعية، في نفس الوقت، الى تحقيق نوع من التحرر الوجداني طلبا للانسجام والتوازن والسعادة. وتبدو أليغريا بندلاق أكثر الحاحا في البحث عن التوحد من خلال الاستعادة السائبة لماض ولت أيامه ومباهجه، وأن تمزقها الوجداني والعاطفي والنفسي والحياتي أورثها حالات من الفقدان تؤرق الذات، فيكون الطلب ملحاحا في البحث عن معادل موضوعي يحقق للذات وحدتها.

واذا ما اعتبرنا أن السيرة الذاتية هي المجال الأدبي الخاص للتعبير عن الهوية الشخصية المفترضة من خلال اعادة التفكير كتابة في الماضي والذكريات والتطورات اعتمادا على تجربة الحياة في الحاضر، فان المرأة التي تقوم بكتابة هذه السيرة تسعى الى بناء هوية نصية منسجمة، انطلاقا من درجة وعيها النقدي بمسار حياتها، تعلو على مظاهر الدونية والاضطهاد والقمع. وصوتها السردي في كل ذلك صوت له علاماته اللفظية الظاهرة التي تدل، بصورة واضحة، على التأنيث الحقيقي المتصف دائما بالولادة والتناسل لا على الشيوع والشهرة.

1 ـ رجوع الى الطفولة، شركة النشر والتوزيع، المدارس، الطبعة الثانية، الدار البيضاء 2000، ص 4 2 ـ أوراق حياتي، في جزءين، دار الآداب 2000، بيروت 3 ـTanger 1930/1945, ed. Mosaique, une enfance WALLADA, Casablanca 1992 4 ـ Escribir en feminio plural: las mujeres arabes y la literatura, in: El imaginario, la referencia y la diferencia; siete estudios acerca de la mujer arabe, Granada, 1997, p24 5 ـ هل للنص النسائي خصوصية، دراسة لرواية البابا المفتوح، هاجر (مجلة)، كتاب المرأة 1. سينا للنشر القاهرة 1993، ص137 =