أميخاي .. شاعر يعرّي كياناً مفككاً

صدور مختارات بالإنجليزية للشاعر الإسرائيلي الأبرز بتقديم تيد هيوز

TT

مع مطلع الستينات، يقول الشاعر «تيد هيوز»، أصبحنا على معرفة، وبصورة مفاجئة، بترجمات جديدة للشعر يقبل علينا من كتّاب أوروبا الشرقية والغربية، الذين بلغوا مرحلة النضج زمن الحرب. هذا الشعر بدا لهم جديداً، وحقيقياً ومثيراً، حتى أنه ـ تيد هيوز ـ شرع مع زميله «دانيل ويسبورت» في اصدار مجلة خاصة بالترجمة الشعرية إلى الإنجليزية. وفي عددها الأول، قدما أسماء كان من أبرزها «زبغنيو هيربرت» (بولندا)، «هولوب» (تشيكوسلوفاكيا)، «فاسكو يويا» (يوغسلافيا)، و«يهودا اميخاي»، يهودي من ألمانيا، الذي اصبح أبرز شاعر إسرائيلي في النصف الثاني من القرن المنصرم.

لا شك أن حماس «تيد هيوز» كان معززاً لموقع «اميخاي» في الثقافة الإنجليزية، إلا أن هذا العامل ما كان يجدي من دون موهبة هذا الشاعر الاستثنائية. فقد اشترك معه في ترجمة الكثير من القصائد وأصدرها في أكثر من كتاب. وها هي دار «فيبر أند فيبر» تصدر، بعد رحيل «اميخاي» (2000)، أضخم مختارات له أسهم في معظمها «تيد هيوز»، الذي رحل هو الآخر.

«اميخاي» شاعر إسرائيلي بصورة خالصة، ولد في ألمانيا عام 1924، وفي الثانية عشرة هاجر مع أبويه إلى فلسطين مع بداية صعود النازية. في الحرب الثانية خدم في الجيش البريطاني ثم التحق بالجيش الإسرائيلي في حرب 1948، وبقي في إسرائيل شاهد كيان حربي لا تهدأ منازعه ومخاوفه، يتردد كل ذلك في شعره مع بساطة في اللغة تقرب العامية، ومباشرة تبدو معظم الأحيان خادعة. لأن «اميخاي» يحاول أن يبني تركيباً شعرياً من إيقاعات وصور لغة العهد القديم ومن اللغة المحكية في العبرية اليوم.

وإذا دفعنا جانباً عبارة «حرب الاستقلال»، التي ترد أحياناً في بعض قصائده، وهي عبارة لا يحب الشاعر ولا أي من نقاده أن يلقي عليها ضوءاً تاريخياً إيضاحياً، فإن كل هذه القصائد لا تكاد تكشف عن موقف عقائدي. على العكس فإن «اميخاي» يبدو فيها تراجيدياً، ربطته قوى عمياء بالحرب كمحور حياة وحيد. وعبر الحرب وحدها يتأمل موضوعه الأثير: الحب. إن اضطراب الحياة في مجتمع مؤسس على ظرف حرب لا تتوقف هو الذي شكل زاوية نظره الشعرية. قصائده تتعامل مع حب شهواني ومع حرب مصوتة في آن، والكائن الإنساني فيها مغترب ووحيد، ولا يرتبط بالآخر إلا في لحظات خاطفة، وروح الدعابة لديه تساعده على الهرب من محاور شعره الجدية: العزلة الاجتماعية والعاطفية المميتة.

بساطة لغته الشعرية توهم بتجردها من البعد الفلسفي، الذي لا يغفل عنه نقاد الشعر اليوم، لكن قدرته على المزج بين اللحظات المألوفة للحياة اليومية وبين المرامي الميتافيزيقية الأبعد هي التي تقف، بالتأكيد، وراء الانتباهة العالمية إلى شعره. فالإعلام لا يعزز موقع شاعر على هذا الصعيد إلا بصورة مفتعلة ومؤقتة. ولا أحسب أن «تيد هيوز» ولا غيره، يلتفت لغير انتساب «اميخاي» الشاعر إلى تراجيديا الفرد الممزق، وكيف منح تمزقه هذا بعده الإنساني والوجودي والميتافيزيقي. فقصائد الحرب تولدها حاسة المسؤول الذي ارتكبها، وحاسة الضحية. حاسة المطارِد والمطارد في جسد واحد: «لا أملك ما أقوله حول الحرب، لا أملك ما أضيفه. فأنا مثقل بالذنب./ كل المعرفة التي تشربتها من الحياة تخليت عنها،/ تماما كصحراء تخلت عن كل ماء./ والأسماء التي ما كنت لأنساها نسيتها./ وبسبب الحرب، رأيت ثانية، من أجل تلك الحلاوة البسيطة الأخيرة،/ الشمس وهي تدور حول الأرض. نعم، والأرض مسطحة مثل لوح طاف وضائع. نعم..».

في أكثر من قصيدة، يشير إلى الخطأ الذي ارتكبه بحق نفسه وحق الآخر. وما شعره، جملة، إلا هتك لكيان فردي مهزوز يقف داخل كيان اجتماعي مشرذم، في مصير غامض ومثير للارتياب، وأي قراءة مستجيبة لهذا الشعر المتدفق لا بد أن تكشف عن الداخل المفرغ من أي عامل تماسك في الكيان الإسرائيلي كله. بهذا المعنى نرى «اميخاي» شاعراً إسرائيلياً خالصاً.

إن ما يدهش داخل بساطة هذا الشاعر المريبة هو رشفة المخيلة المفاجئة داخل المشهد المعتاد في نصه. في آخر إحدى قصائده: «أحيانا عند الليل، حين يستعصي علي النوم، اسمع الملعقة الثقيلة تخمش وتخدش قعر القدر..». وفي قصيدة عن مشهد امرأة.. «عاطفية جداً. في داخلها ينتصب والدها الميت، مثل روح هادئة» وأخرى نرى.. «غباراً من الصحراء يغطي المائدة التي لم نأكل فوقها، ولكن بسبابتي كتبت عليها حروف اسمك».

في هذه المختارات أسهم اثنا عشر مترجماً، على فترات زمنية متباعدة، حاول «تيد هيوز» و«دانيل ويسبورت» أن يجمعا أكبر قدر منها في كتاب ضخم، لكن الدار FF، اكتفت بمائة وثلاثين قصيدة معظمها قصير الحجم، مع مقدمة «هيوز» وخاتمة لـ «ويسبورت».