صيغة مبتكرة لتدريس كتاب موحد في التاريخ

إسرائيل رفضت والسلطة الفلسطينية بدأت التجربة في ثلاث مدارس

TT

باحثان أحدهما إسرائيلي والآخر فلسطيني، خطر لهما، وهما يشاهدان، الدماء تنزف سخية من الطرفين، تدريس الروايتين التاريخيتين المتباعدتين، كما يقصها اليهود، وكما يراها الفلسطينيون في كتاب موحد، تعتمده المدارس الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء، قد تكون الوسيلة الفضلى لتقريب وجهات النظر، وحقن الدماء. السلطة الفلسطينية قبلت الفكرة وبدأت تجريبها في ثلاث مدارس، في ما لم تجز وزارة التعليم الإسرائيلية تقريره أو حتى تجريبه.

تجربة فريدة بدأت السلطة الفلسطينية اختبارها في ثلاث مدارس، ورفضتها تماماً وزارة التعليم الإسرائيلية، بينما لم تتأخر بعض المدارس الأوروبية في تبنيها. والفكرة تقوم اساساً على تدريس كتاب موحد في التاريخ للطلاب اليهود والعرب، يحوي رواية كل طرف للحدث الواحد، تليها مباشرة رواية الطرف الآخر. بحيث يستطيع الطالب، أن يعقد مقارنة سريعة جداً بين المتناقضات.

حين تقرأ الروايتين المتتابعتين والمتعاكستين أغلب الأحيان، يخيل إليك أن المشروع الذين يقدم للطلاب من الطرفين مجرد حوار طرشان، لكن في واقع الأمر فكرة لفتت الكثيرين، وتصلح للتطبيق في العالم أجمع. ولد المشروع عام 2002، يوم تفاقم الصراع وتصاعد التوتر بين الشعبين، الاسرائيلي والفلسطيني، لدرجة خطيرة. اسرائيل تبطش بالشعب الفلسطيني بشكل لم يسبق له مثيل، والشهداء من المدنيين الأبرياء يتساقطون بالعشرات يوميا، والفلسطينيون من ناحيتهم يديرون مقاومة مسلحة تبدو بسيطة أمام جبروت الاحتلال الاسرائيلي لكنها تسبب الأذى لإسرائيل وتوقع الضحايا. في هذه الفترة بالذات، عكفت مجموعة من المؤرخين والباحثين الاسرائيليين والفلسطينيين من «مركز دراسات الشرق الأوسط»، على وضع كتاب مدرسي، أعطته عنواناً دالاً وهو: «تعلم الرواية التاريخية للآخر: الفلسطينيون والاسرائيليون».

صاحبا المشروع هما البروفيسور دان بار اون, رئيس قسم السلوكيات في جامعة بئر السبع والبروفيسور سامي عدوان، رئيس جامعة بيت لحم وباحث تربوي معروف. وقد شاركهما الاعداد الأولي للمشروع ستة معلمين من كل طرف. بهدف عرض روايتي الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، أمام طلاب صفوف الثالث اعدادي والأول ثانوي عن طريق معلمي التاريخ في المدارس الفلسطينية والاسرائيلية. هذا الجزء تناول وعد بلفور وحرب 1948 والانتفاضة الفلسطينية الاولى1987، باللغتين العربية والعبرية. أما الجزء الثاني، الذي صدر قبل شهر، فتناول الروايات الفلسطينية والاسرائيلية في سنوات العشرينات والثلاثيات وفي حرب 1967. وقد علمنا انه بدأ الاعداد لاصدار الجزء الثالث ومن المتوقع أن يرى النور في نهاية العام الحالي وسيتركز على الروايات الفلسطينية والاسرائيلية للأحداث التي وقعت في فترة الخمسينات والسبعينات والتسعينات.

يمكن القول بأن هذه المبادرة لاقت ردود فعل متباينة لدى اولئك الطلاب الذين عبروا التجربة لدراسة الرواية التاريخية للطرف الآخر، فمنهم من رأى ذلك بعين الرضا، ومنهم من شكك بالمبادرة وامكانية نجاحها. ومنهم من واجه معلميه بالسؤال: لماذا تعلموننا روايتهم في هذا الوقت بالذات؟ وهل هذا يأتي في اطار عملية التطبيع؟ ومنهم من رأى بأن روايته هي وهي فقط الحقيقية. كذلك عكست المبادرة ردود فعل الأهالي، اليهود والعرب، فمنهم من رحب ومنهم من رأى الوقت غير مناسب، وآخرون رفضوا الفكرة تماماً. سامي عدوان ودان بار اون يؤكدان: نحن لا ندعي بأن اياي من الروايات الاسرائيلية او الفلسطينية تمثل وجهة نظر جميع الاسرائيليين او الفلسطينيين. انما نعتقد بأنها تمثل بين %60 إلى % 70 من وجهة نظر الطرفين.

مقابل هذ التفاوت في الآراء لدى الفلسطينيين والاسرائيليين، وجدت بعض الدول الأوروبية لا سيما فرنسا وإيطاليا، في هذه الصيغة ما يناسبها، فترجمت الكتاب، وقام المعلمون بتدريسه في الصفوف المختلطة التي يتعلم بها طلاب يهود ومسلمون. كان يهمنا بشكل أساسي، أن نعرف ما هي نتائج هذا التدريس، وكيف ينظر اليه معلمو التاريخ والشخصيات الثقافية. فوجدنا قسما كبيرا منهم لا يعرفون شيئا عن الموضوع. ولكن من عرفوا أو من أطلعناهم عليه اختلفوا في ما بينهم حول تقويم التجربة ومضمونها.

د. مصطفى كبها. المحاضر في موضوعي الإعلام والتاريخ في الجامعة المفتوحة وجامعة بئر السبع، رحب بالفكرة معتبراً اياها ايجابية يتم من خلالها تعريف الطرف الآخر على رواية الذي يعيش معه ولا يعرف روايته. فالرواية الاسرائيلية أدت دورها في بداية قيام دولة اسرائيل، أما الرواية الفلسطينية فلا. هذا افضل من رواية أحادية الجانب كما كان الوضع منذ اكثر من خمسين عاما، ومن شأنه ان يؤثر على الطلاب. بمعنى أنه يعطي فرصة للطالب اليهودي لمعرفة الطرف الفلسطيني وفرصة للطالب العربي للتعرف على الرواية المغيبة التي تصل اليه بشكل او بآخر. ففي التاريخ لا توجد حقيقة واحدة او حقيقة محضة وموضوعية فنجاح المؤرخ يقاس من خلال سعيه أن يكون موضوعياً ولا يمكن ان يكون موضوعياً. واضاف: من الواضح ان عملية دمج الروايتين برواية أخرى، هو امر صعب.

إلا ان المؤرخ د. سعيد برغوث، الذي يعمل مفتشا مسؤولا للتعليم ومحاضرا جامعيا، وكان عضوا في لجنة اختيار كتب التدريس في الوزارة، كان رأيه سلبيا للغاية: «انه مشروع مرفوض لأن الكتاب يستند الى التضليل من غلافه الى مضمونه. فعلى الغلاف يبدو وكأن هناك نديّة ومساواة بين اليهود والعرب، بينما من يبحث يجد ان الرواية العربية ضعيفة بالمقارنة بالرواية اليهودية القوية. يتجاهلون تاريخ الشعب الفلسطيني ما قبل القرن الأخير، ويقعون في أخطاء تاريخية ويخلطون ما بين المقاطعة والولاية وغير ذلك.

وتوجهنا الى أحد أصحاب المشروع البروفيسور دان بار أون، نسأله تعليقه فأجاب: «لا يفاجئني حديث الاستاذ برغوث بأننا نرجح الرواية اليهودية. فالمؤرخون اليهود الذين رفضوا الفكرة في المدارس العبرية يقولون انه مكتوب باسلوب يرجح الرواية الفلسطينية. وهذا يدل على اننا نجحنا بشكل كبير في تقديم الروايتين بشكل متوازن. والحقيقة ان كلاً من الطاقمين الفلسطيني والاسرائيلي اللذين عملا على الإعداد، اشتغلا بشكل مستقل تماما، ولم يتدخل أي منهما في عمل الآخر. وكل طاقم يتحمل مسؤولية روايته التاريخية. وبالنسبة لتاريخ الشعب الفلسطيني في القرون الغابرة، فهذه حقيقة تاريخية لا جدال فيها. وفي الوقت نفسه فإنه لا أحد يمنع أحدا من الكتابة عن هذه الحقبة أو تلك. أما نحن فقد اخترنا الحديث عن فترة الصراع وحسب. وبالنسبة لقضية المقاطعة والولاية، فيبدو ان هناك خطأ في الترجمة، سنفحصه ونعمل على تصحيحه. لكن القضية الأساسية تبقى في نتائج هذا التعليم، إذا ما سمح به. المؤلفان والطواقم العاملة معهما، مصرون على الاستمرار في الضغط حتى تنطلق هذه الفكرة الى أكبر عدد من المدارس عند الطرفين. بل ان بار أون ومعه محاضر عربي من فلسطينيي 48، نقل الفكرة الى جامعة بئر السبع، التي يرأس فيها كلية علوم السلوكيات، حيث يدرس طلاب جامعيون عرب ويهود كيف يستمعون بشكل مباشر لرواية الآخر طيلة السنة. ويقدم كل طالبين، يهودي وعربي، معا، دراسة وتحليلا مشتركين لكل رواية من روايتيهما.

صحيح ان الطلاب لم يخرجوا من هذه التجربة اصدقاء حقيقيين، ولكنهم أجمعوا في نهاية السنة على ان دراسة الطرف الآخر أفادت كل واحد منهم وعززت لديهم القناعة بأن الحرب لا تفيد، وأن لكل طرف توجد قضية لا بد من معالجتها والعلاج الأفضل للجميع هو: الطرق السلمية.