بازوليني يحيا من جديد بعد ثلاثين عاماً من مقتله الغامض

«السينما.. الاضطهاد ثم الموت» في القاهرة

TT

كان فجر الثاني من نوفمبر لعام 1975، هو الأخير في حياة الشاعر والكاتب والمخرج الإيطالي الشهير بيار باولو بازوليني، حين تم اغتياله مع خطوط الصباح الأولى، قرب ميدان الليدو في أوستيا بإيطاليا، ليرقد بعدها في قبر ملاصق لقبر أمه، ليكونا قريبين في الموت كما كانا في الحياة. وبين المولد (5 مارس 1922) والممات، كانت حياة بازوليني أقرب إلى حلم تحقق، بل أقرب إلى شريط سينمائي كأفلامه الزاعقة.

لم تكن مهمة مستحيلة على المصور«جوفاني جيوفانيتي» أن ينسق 140 صورة فوتوغرافية تجعلنا نعود للوراء أعواماً ونعيش مرة أخرى مشاهد حياة بازوليني، في معرض أهدى لذكرى وفاته الثلاثين، وأقيم في غاليري «المعهد الثقافي الإيطالي» في القاهرة، وقدمته د. بيانكا جارافيللي في إطار الدورة الخامسة لأسبوع اللغة الإيطالية في العالم. كما رافقت الصور عروض لأفلام بازوليني مثل «الإنجيل حسب القديس متى»، «زهرة ألف ليلة وليلة»، «أسطورة افريقية»، وغيرها من الأفلام التي أثارت ضجة لجرأتها واقتحامها اجتماعياً وسياسياً ودينياً، ورسخت اسم بازوليني في طليعة جيل ما بعد فيلليني الأشهر. وتم الحصول على صور المعرض من أرشيف دار نشر «إفيجي»، حيث يؤصل المعرض لصورة بازوليني كما جاءت في كتاب على اسمه من تأليف «جياني دي إليا» ونشرته «إفيجي». كذلك شاركت هيئة بازوليني في بولونيا بصور أخرى، لتكتمل مشاهد حياة بازوليني أمام الزائرين. وحمل المعرض عنوان «السينما، الاضطهاد ثم الموت». فنرى بازوليني في مراحل حياته، طفلاً، مراهقاً، ثم شاباً ورجلاً، ونذهب معه في كواليس أفلامه، ونجاوره في جلسته مع الشاعر الكبير أونجاريتي، أو مع فيلليني الذي تتلمذ عليه. أو نشهد شجاراً عنيفاً بينه وبين بعض المتظاهرين أمام العرض الأول لأحد أفلامه.

وبين كل مجموعة صور وأخرى، نطالع بروازاً يؤطر ورقة صيغت في هيئة بيان أو مانفيستو عن مرحلة ما من حياة بازوليني. فقد ولد في بولونيا لأب ضابط في المدفعية ينتمي لطبقة النبلاء، وأم من أصول ريفية عملت كمدرسة. تنقلت الأسرة مع الوالد بين البلدات المختلفة داخل إيطاليا، وشهدت إحداها مولد الأخ الأصغر لبازوليني. لكن علاقة بازوليني بوالده الضابط ذي الطباع العنيفة كانت شائكة، مما دفع مشاعره كابن دوماً إلى جانب أمه. وحين حصل بازوليني على الثانوية العامة كان قد بدأ قراءاته الخاصة. أعجب كثيراً بإلياذة هوميروس وروائع شكسبير. وتأثر بكبار الشعراء الإيطاليين مثل «كاردوتشي» و«تومازيو».

دخل كلية الآداب عام 1939 ببولونيا، وفي عام 1942 كتب أول أعماله «أشعار في كازارا» تأثراً بـ «كازارا ديللا ديليتسيا» بمقاطعة فريولي التي قضى فيها طفولته، والتي عاد إليها في نفس العام مع الأسرة بعد رحيل والده مع الجيش إلى افريقيا أثناء الحرب العالمية الثانية.

خمسة أعوام فاصلة في حياة بازوليني من 1945 إلى 1950، بدأت بمقتل أخيه أثناء حرب عصابات، مما أصابه بألم لم يبرح القلب أبداً، وعمله كمدرس وانضمامه للحزب الشيوعي الإيطالي ثم طرده منه وفقدانه لوظيفته بعد جملة من بلاغات فساد طالت مجموعة من الأعضاء الشباب بالحزب. لينتقل بازوليني في عام 1950 إلى روما مع والدته ويبدأ حياة جديدة تماماً بلا وظيفة. فما كان منه إلا أن تفرغ بعض الشيء للكتابة منذ عام 1951.

وشهدت سنة 1955 ظهور روايته «أطفال الحياة» عن دار جارازانتي، والتي نالت نجاحاً كبيراً، كما عاد لعمله كمدرس، ونشر مقالات في صحف متعددة.

بدأ عمل بازوليني في السينما كمصمم مشاهد مع المخرجين «ياساتي» و«بولونيتي»

و«روزي» إلى أن عمل مع «فيلليني» في فيلم ليالي كابياريا، حيث اشترك في كتابة الحوار كمصحح للهجات أيضاً، ليخرج الحوار بلهجة روما. أما فيلم فيلليني الشهير «الحياة الحلوة» فكان نصيب بازوليني منه كتابة مشهد كامل. وتزأمن عمل بازوليني في السينما مع إصداراته الشعرية، فنشر بعض الأشعار القصيرة بعنوان «رماد جرامشي» عام 1957، وظهر له في نفس العام أشعار «عصفور الكنيسة الكاثوليكية». ثم أصدر عام 1959 رواية «حياة قاسية». وشهدت بداية الستينات ظهور دراسات له، منها «الحب والأيديولوجية»، الذي تزأمن مع أول أعماله كمخرج.

توالت أفلام بازوليني في حقبة الستينات مؤكدة على موهبة كبيرة ورؤية جديدة في المعالجة كأفلام «ماما روما» و«الغضب» و«الإنجيل حسب القديس متى» و«طيور قبيحة وطيور صغيرة» الذي قام ببطولته النجم الكوميدي الإيطالي الأول «توتو». وكان من ضمن هذه الأعمال ما تميز بطابع وثائقي. أما فيلم «أوديب ملكاً» فقد حمل رؤية بازوليني الأسطورية لأوديب. بينما تم منع عرض فيلمه «لاريكوتا» الذي قام ببطولته الممثل الشهير أورسون ويلز، لأن قصته تدور حول حياة مخرج ماركسي. كذلك استمر في إنتاجه الشعري، فأصدر «ديانة عصري» و«شعر على شكل وردة».

كان واضحاً أن بازوليني يغرد خارج سرب كل السلطات اليمينية المتمكنة في إيطاليا، ذلك الوقت، فهو ضد الفاشيين سياسياً وضد الكاثوليكيين المتعنتين دينياً. وكل ما يريده هو إيطاليا حرة جديدة لا تجتث نفسها من الماضي، بل تضيف إليه من براح وتعددية الحاضر وقبول المختلف. فلم يكن من العجيب أن يقف أمامه مجلس الوزراء الإيطالي بكل ثقله. فيقف بازوليني يوماً في المحاكم مع دار نشره جارازانتي بسبب كتاباته، ويقف أمام محكمة مختلفة في يوم آخر بسبب أفلامه، حتى بلغ مجموع القضايا التي واجهها 33 قضية. كما كان عليه أن يواجه يومياً الصحافة المحافظة، خاصة الصحف الأسقفية الكنسية. مما دفعه لأن يصرح أثناء أول زيارة له لنيويورك بأن علاقته بأوروبا ستنتهي في يوم ما وأنه سيجد راحته في أميركا.

ثم لاح بعض الانفراج في مسيرة السلطة السياسية في إيطاليا مع بداية السبعينات بوجود الحزب الديمقراطي، في نفس الوقت الذي سطع فيه النجم الأدبي والسينمائي لبازوليني سطوعاً قوياً، فتبنت مؤلفاته دار نشر كبرى وظهرت مقالاته في أهم الصحف. وبدأ مع ربيع عام 1972 في كتابة رواية «البترول» التي أراد لها أن تخرج في 2000 صفحة، لكنه أنجز منها 500 فقط قبل مقتله. تحدث فيها عن المذابح الفاشية وعن العلاقة بين السياسة والمال، وقدر لها أن تنشر عام 1992.

كطائر حر عشق بازوليني الترحال والسفر، فذهب إلى أحراش افريقيا وكينيا، كما صاحب الكاتب الكبير ألبرتو مورافيا في رحلة إلى الهند. إلا أنه سقط قتيلاً ومشوهاً بالطعن في 2 نوفمبر 1975، واتهم في مقتله شاب في السابعة عشرة من عمره يدعى «بينو بيلوزي»، الذي أكد بعد ذلك أن مقتل بازوليني كان على يد ثلاثة رجال أقوياء متوسطي العمر خرجوا فجأة في الظلام وانهالوا عليه وهم يصيحون «الشيوعي القذر». لكن الرجال الثلاثة ظلوا كالأشباح ولم يكن لهم من أثر. فقدر لبازوليني أن يصبح أسطورة في حياته وبعد موته، وتظل أسئلة الوجود العميقة التي طرحها في شعره وأفلامه ورواياته ونقده وحتى رسوماته باقية، تطل في ذكراه التي تحييها بلاده ومحبو الأدب والفن.

وبرغم الجهد الكبير الذي بُذل في معرض بازوليني في القاهرة، إلا أن توقيت المعرض الذي جاء في آخر رمضان واستمر أيام العيد ظلم بازوليني وذكراه كثيراً، فلم يشعر به إلا القليلون، بل القليلون جدا.