الإخوان المسلمون في سورية.. أي دور سياسي قادم؟

بدأوا عبر تأسيس الجمعيات وواجهوا الماركسية باشتراكية إسلامية

TT

مؤلف «الحركات الإسلامية في سورية» الألماني يوهانس رايسنر، الصادر حديثاً عن دار رياض الريس ببيروت، درس، حسب مترجم الكتاب محمد إبراهيم الأتاسي، العلوم الإسلامية والدين ببرلين وفينا. وعاش فترات طويلة بلبنان، وسوريا، والمملكة العربية السعودية، وإيران، وطاجيستان، وله دراسات عديدة في الأصولية الإسلامية، وما زال باحثاً في الشأن السياسي الإسلامي. والكتاب الذي بين أيدينا هو دراسة أكاديمية نال بها المؤلف درجة الدكتواره.

جاء بحثه هذا في أربعة أقسام أو أبواب: النظام الاجتماعي وحركة التحرر العلمانية، وعقيدة الإخوان وتنظيمهم وانتشارهم، والمعارضة تحت لواء الإسلام، واشتراكية الإسلام وسياسة الحياد، يضاف إلى ذلك ملاحق في سير ذاتية مقتضبة لأبرز أعضاء التنظيم الإخواني، وعدد من مذكرات الإخوان وبرامجهم السياسية والاجتماعية.

وقبل كل شيء، لا بد من القول أولاً إنه مهما استقلت فروع الإخوان خارج مصر، إلا انها تبقى مرتبطة بالأصل، الذي أسسه حسن البنا (1928)، وعمل جاهداً لنشره بالبلدان الأخرى، عبر طلبة الأزهر المغتربين، أو المبشرين المعتمدين لهذه المهمة. وبما أن التبشير بالفكر الإخواني لا ينفصل عن التعليم الديني، وتمويه السياسة بالدين، لذا انتشر في العديد من البلدان العربية من دون أن يلفت النظر في بداياته، ولم يظهر تشدد الحكومات ضده إلا بعد اتساع رقعة الانتشار، وإعلان المبادئ السياسية والاجتماعية، والتدخل العلني في الشأن السياسي. وبطبيعة الحال يسرَ تمويه السياسة بالدين للإخوان استخدام المساجد والمحافل والمناسبات الدينية، والجمعيات الخيرية حتى التمكن والظهور بشكل مكشوف ومؤثر.

ناقش المؤلف تسمية الحركة بالإخوان، وفيما إذا كانت امتداداً للإخوان بالجزيرة العربية في العشرينيات، أو استعارها إسلاميو مصر منهم. لكن هناك في تاريخ المسلمين أكثر من إخوان، وأبرزهم إخوان الصفا وخلان الوفا، وورد الاسم عند ابن المقفع في «كليلة ودمنة» كجماعة منظمة. هنا يجيب مؤسسهم حسن البنا عما إذا كانت جماعته تشكل حزباً أو جمعية أو طريقة أو نقابة: «كله ليس مهماً، إنما المهم أننا جميعاً أخوة في خدمة الإسلام»(ص 112). إلا أن هناك ما يعترض على هذه التسمية بمعناها العام، فهي خاصة بالمسلمين كافة، بينما ظهر إخوان المسلمين جماعة متمايزة داخل الأخوة الإسلامية، ولا بد أن يجري تشخصيها بكيان ما: اتحاد أو حزب أو تنظيم.. إلخ. لم ينتظر الآخرون فتوى من الإخوان في شأنهم حتى شاع كيانهم بحزب إخوان المسلمين. ومعلوم أن محاولة البقاء من دون تحديد شكل التنظيم يقصد به الابتعاد عن التحجيم، وإمكانية الاستمرار بتمويه السياسي الحزبي بالديني أو العكس. فهناك فارق كبير في الحجم والانتشار بين أن يكون التنظيم، على حد ما اقتبس المؤلف من فاخ، «جماعة إخوة دينية» وبين أن يعرفوا بإخوان المسلمين. يقول المؤلف حول تصنيفهم: «إن تصنيف الإخوان المسلمين في زمرة التجمعات الدينية يجب أن يتم من خلال الجمعية. وهنا يكمن البعد التاريخي لذلك، إذ ان تصنيفهم كإخوان ليس دقيقاً بل مغاير للواقع» (ص 112).

مثل التنظيم الأصل بدأ تنظيم إخوان المسلمين بسوريا عبر تأسيس الجمعيات، وقد يصل التشابه إلى أبعد من ذلك، فعلى «الرغم من أن الإخوان المسلمين في مصر كانوا بمثابة المثل المحتذى للإخوان المسلمين في سورية إلا أنه يمكن اعتبار هؤلاء بأنهم مجرد استيراد مصري» (ص117). وأبرز تلك الجمعيات هي «الجمعية الغراء»، التي أثارت اهتمام الانتداب البريطاني العام 1942، حتى أطلقوا عليها اسم «الحزب السوري». وتبقى تلك الجمعية فاعلة كستار لنشاط الإخوان بسوريا، وعاملة ومؤثرة في السوق، وكان من نفوذها بين التجار الصغار، أصحاب الدكاكين، أو الكسبة. واستطاعت سنة 1944 إغلاق الأسواق، بسبب حفل نسوي قامت به نساء الطبقة الراقية بدمشق تضمن فقرة راقصة. وتفاقم الموقف ليتحول إلى قضية سياسية، دخلت فيها الحكومة طرفاً. وجاء في تقرير بريطاني: «أن الجمعية الغراء تتدخل في السياسة بفضل تأثيرها على السذج من الشعب، واثارتها للعصبية الدينية لدى المسلمين، وتنظيم المظاهرات ضد الحكومة للاحتجاج ضد الترخيص الممنوح من الحكومة» ( ص119). كان الجانب الأخلاقي الديني، أو الالتزام الديني، أحد مجالات نشاط الجمعيات الإخوانية، وهو مجال خصب لإثارة العامة ضد أحزاب أخرى أو ضد الحكومة نفسها.

حاول المؤلف إيجاد الخيوط الأولى لنشأة الإخوان المسلمين بسوريا، وهنا يطرح اسم مفتي القدس أمين الحسيني، الذي له الفضل بإرشاد أعضاء من إخوان المسلمين بمصر إلى جماعة «الهداية الإسلامية» بدمشق. وكان الحسيني قد اعتقلته السلطات الفرنسية، وفر من السجن بمساعدة الإخوان.

تطور آخر حصل انذاك، وهو زيارة عميدهم مصطفى السباعي لروسيا، وبداية حديثه عن اشتراكية إسلامية، لمواجهة شعبية الحزب الشيوعي السوري بسبب المناداة بالاشتراكية. ولتحقيق هذا الغرض كتب أحد أعضائهم البارزين، محمد المبارك، في جريدتهم «المنار» (1949): «أنه يجب القضاء على الروح الشيوعية من خلال نظام اشتراكي إسلامي، كما يحدث ذلك اليوم في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة التي تستند قوانينها الاقتصادية إلى قاعدة اشتراكية» (ص343). وحسب ما اقتبسه المؤلف من باحث آخر «كان الإعلان عن اشتراكية الإسلام بمثابة عامل امتصاص للنشاطات الاشتراكية». عموماً، لم يقتصر أمر التظاهر بإعلان الاشتراكية، بعد نسبتها، على الإخوان المسلمين، فمصر الناصرية أخذت تتحدث عن اشتراكية عربية، والسبب أنها كانت محط جذب للطبقات الدنيا، وهي حلمهم في المساواة.

مثل الحزب الشيوعي السوري وأحزاب سورية أخرى، بسبب علمانيتها ورفضها تدخل الدين في السياسة الدولة، وجعل القانون وفقاً للشريعة الإسلامية، أبرز المتصدين لنشاط الإخوان. لكن تأثير هؤلاء وسط طبقة الكسبة والطبقة الوسطى بشكل عام جعلهم ينجحون في التقرب من السلطة، وأن يوصلوا أعضاءهم إلى مراكز قيادية في الدولة، وبذلك حققوا ما لم يكن متوقعاً لهم. فبعد أن قدم أمينهم مصطفى السباعي كلمة برلمانية طلب فيها أن يثبت في الدستور أن دين الدولة هو الإسلام، أخذت المناقشات تحتد حول هذه القضية، وحجتهم في ذلك أن الإسلام هو دين الأغلبية.

وكان من حملاتهم الدعائية في هذا الشأن، صدور عدد خاص من جريدة «المنار» يحتوي على الاستفتاء حول تحديد الدستور لدين الدولة الرسمي الإسلام، واهتداء لجنة كتابة الدستور بالقرآن الكريم، لأنه أحد المصادر الشرعية المعترف بها دولياً، ويقصدون اعتراف محكمة العدل بلاهاي به، واعتبار الإسلام مذهباً يغطي جميع مرافق الحياة. لكن ما يعترض اعتبار دين الدولة الإسلام، هو أن هناك مسيحيين ويهودا. فهل يجري التعامل معهم بشروط أهل الذمة، وقد رفع العثمانيون، ثم الحكومات التي أتت بعدهم تلك الشروط، وأصبح التعامل معهم على أساس المواطنة؟

وبعد أن لعب الإخوان دوراً علنياً في السياسة السورية، منذ ظهورهم عن طريق الجمعيات ثم عن طريق تنظيمهم الخاص في الأربعينيات، بين اشتراكهم في الحكومات، أو وصول المحسوبين عليهم إلى سدة الحكم ورئاسة البرلمان، حرم عملهم بعد إعلان الدكتاتورية، عندما حل أديب الشيشكلي البرلمان وصادر الحريات السياسية. وبعد سنوات تتراوح بين السرية والعلنية تعرضوا إلى مطاردة من قبل حكومة الوحدة المصرية ـ السورية، على خلفية مطاردة تنظيمهم الأم بمصر. وظل الحال على ما هو عليه في ظل حكومات البعث، التي بدأت من السنة 1963، وحتى يومنا هذا. لجأ الإخوان السوريون إلى العنف في أكثر مناسبة، حتى ضد الأحزاب الأخرى، فاغتيال مرشدهم الأول حسن البنا كان امتداداً لعمليات اغتيال مارسها تنظيمهم ضد الآخرين.

يختتم المؤلف كتابه بملاحظة انقسام إخوان المسلمين بسوريا بين متشددين ومعتدلين. معتدلون ذابوا في جمعيات خيرية «غير خطرة» سياسياً، أو اتجهوا إلى الجماعات الصوفية. ومعلوم أن التصوف لا يقر النشاط الحزب الديني ولا العنف، ولا التدخل في السياسة عموماً. لكن مخاوف المثقفين السوريين اليوم من أن يأتي الإخوان إلى الحكم، بعد مرحلة البعث، يؤكد حضورهم السياسي، وما العمل الخيري والمحافل الصوفية سوى محطات أمنة للانتظار والترقب. وقد يستغل الإخوان الضغط وربما التدخل الأميركي لينطوا إلى السلطة عبر انتخابات نتيجتها شبه مضمونة لهم، ضمن التدهور الفكري والثقافي وانتشار الفكر السلفي، بعد أن قضوا حوالى قرن من الزمان في الهتاف والعمل ضد أميركا والإمبريالية.