سلطة الكلمة بدل العنف والاقتتال والصراع الطبقي

فلسفة لا تزال غريبة وغير معروفة عند القارئ العربي

TT

طور هابرماس النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت في محاولة لوضع اسس لنظرية نقدية تواصلية تضع حلولا عقلانية لمواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع الحديث، وفي مقدمتها اعادة بناء «مشروع الحداثة الذي لم يكتمل» او هو في طريق مسدود.

كان رواد مدرسة فرانكفورت يعتبرون الاشتراكية مرحلة تاريخية هامة في التاريخ الاوربي، وان النظام الاقتصادي القائم على التسلط والقمع لا يمكن اصلاحه، كما ان دمقرطة النظام الرأسمالي هي مجرد حل ظاهري للتناقضات الاجتماعية. هذا التشخيص ينطلق من افتراض يؤكد على ان البنية الفوقية ما هي الا انعكاس لعلاقات الانتاج الاقتصادية، وهو ما عارضه رواد مدرسة فرانكفورت، منطلقين من ان علاقات الانتاج الاقتصادية لا تتطابق دوما مع الحياة الاجتماعية. ففي المجتمعات الديمقراطية تنمو اليوم محاولات حرة تتفتح فيها طاقات الفرد وتمكنه من تحقيق مشاركة سياسية في الحياة العامة وتساعده على تحسين ظروفه وتوسيع امكانيات المشاركة العلنية عن طريق نقد المعوقات التي تقف في طريقه نقدا عقلانيا رشيدا.

ان اعادة بناء النظرية النقدية يعني عند هابرماس نقد الاثار السلبية التي افرزتها الفلسفة الوضعية والعلموية التي تحولت الى تبرير آيديولوجي للعقلانية الاداتية الخاصة بالنظام الرأسمالي، التي تقوم على الضبط العقلاني والسيطرة على رأس المال وتراكمه، وهو ما قاد الى ازمة الحداثة ونكوصها عن تحقيق ما وعدت به.

ويعتبر كتاب «يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت ـ النظرية النقدية التواصلية» لحسن مصدق، المركز الثقافي العربي، بيروت 2005، مساهمة هامة بالتعريف بفكر وفلسفة هابرماس، الذي لا يزال غريبا وغير معروف عند القارئ العربي، رغم شهرته العالمية.

وهابرماس (دسلدورف 1927) فيلسوف وعالم اجتماع نقدي، عمل استاذا في جامعة فرانكفورت، واصبح عام 1972 مديرا لمعهد ماكس بلانك. وجعلت منه سيرة حياته العلمية نموذجا للمفكر الالماني الرصين ومرجعا اساسيا في الفلسفة وعلم الاجتماع والابستمولوجيا، كما يعتبر اليوم الممثل الوحيد لمدرسة فرانكفورت النقدية.

يتألف الكتاب من جزءين، يعالج الجزء الاول منه اهم الافكار والمفاهيم الاجتماعية والفلسفية للنظرية النقدية وبخاصة اسس فلسفة التواصل في الفكر الاجتماعي الالماني، واعادة الدمج بين اللسانيات وعلم الاجتماع والفلسفة، مع ملاحظات نقدية هامة على اخلاقية التواصل كفلسفة عقلانية. اما الجزء الثاني فيعالج فيه ازمة الدولة القومية في عصر العولمة ومفهوم الديمقراطية التداولية في مجتمعات ما بعد الحداثة وكذلك الديمقراطية في الاتحاد الاوربي وآفاق تطورها، منطلقا من ازمة الدولة القومية، ومحاولة توسيع دائرة «الفضاء المشترك» بين الحضارات، التي تكون مفاهيم هامة وضرورية في صياغة اية رؤية نقدية من الممكن ان تفيدنا في اصلاح وتحديث المجتمعات العربية.

في مشروعه لاعادة بناء عالم عقلاني منظم وانساني، تتداخل فيه الذوات الفردية المعزولة تجاه العالم الموضوعي وتدخل في حوار وتفاهم وتواصل مستمر وتوفر بالتالي تحررا اجتماعيا وثقافي عن طريق تطوير «العقل الأداتي» الذي وضعته مدرسة فرانكفورت النقدية الى «عقل تواصلي» يعمل على ردم ثغرة اليقين الوهمي الذي قاد الى انتصار البورجوازية في اوربا وفي ذات الوقت، تعميق التساؤل الجذري النقدي عن اسباب سيطرة الانسان على الطبيعة وآليتها التي تحولت الى سيطرة الانسان على الانسان، والتي تقود الى وقوع العقلانية تحت تأثير الرأسمالية والوضعية والنفعية.

ويرى هابرماس على العكس من رواد ما بعد الحداثة، ان نقده للحداثة والعقلانية الأداتية هو منطلق جدلي. فهو لا يتخلى عن الحداثة، رغم ان الواقع يكذب ما وعدت به من تقدم، كما ان نقده للنظام القائم، المرفوض من العقل، يساعده على اعادة بناء النظرية النقدية على شكل «عقلانية تواصلية» تلتقي مع الديمقراطية بوصفها التشكيل الحر للارادة الشعبية، التي تترجم عبر وسائل التواصل المختلفة التي تقود الى الحوار من دون اكراه وتسلط وعبر التفاهم المستمر بين الذوات من دون اللجوء الى العنف. وهو ما يعمل على تكوين فضاء عمومي يعتبره هابرماس مفتاح الديمقراطية الذي يكون دائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة، اذ يربط بين دوائر المصالح المتعددة والمتناقضة وبين دوائر الدولة، ويجمع الافراد في رأي عام يسمح بتبادل عقلاني للاراء ووجهات النظر ويوحدهم في رأي عام مفتوح يكون وسيلة للضغط على دولة الرفاه الذي افسدته بفضل العلم والتقنية ووسائل الدعاية واللهو والتسلية، في محاولة لاعادة بناء ديمقراطية الجماهير التي تختلف عن الديمقراطية الكلاسيكية. هذا الفضاء المفتوح هو فضاء رمزي ويتكون عبر الزمن عن طريق منظومات القيم والاتصال والاعتراض والتفاهم بحيث يعكس حقيقة الديمقراطية التي تعبر عن الآراء والمصالح والآيديولوجيات المختلفة. ويفترض ان يتمتع الافراد باستقلالية تعكس جميع اراء النخب والاحزاب والتنظيمات الحكومية، كما يفترض استقلال الافراد تجاه العائلة والحزب والجمعيات السياسية حتى يتمكنوا من تشكيل «سلطة الكلمة» بدل العنف والاقتتال والصراع الطبقي.

ان صوت العقل يستطيع اختراق الاوهام وتجاوز المعطيات ويقدم حلولا عقلانية للتقنية التي اطبقت على العالم، ويعلي من شأن التأمل في الحياة الثقافية ويعمل على تطوير تنشئة اجتماعية تولد مهارات فردية تساعد على نضج الشخصية. وبهذه العقلانية التواصلية يمكننا تجاوز اخطار التقنية وحماية العالم واعادة التوازن بين العالم المعيشي وعالم الانسان الاجتماعي.

ان اعادة بناء الفضاء العمومي يشكل شرطا لقيام تجربة ديمقراطية قابلة للحياة المعاصرة التي هي اليوم محور نقاش يتجاوز الاتحاد الاوربي، بعد ان طبق هابرماس هذه النظرية على الاتحاد الاوربي لبلورة شعور عام بالتضامن بين اعضائه لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، التي لم تعد فيها عناصر اللغة والدين والعرق تشكل اساس الاندماج الجمعي، وانما الدوافع المشتركة والتفاعل الديناميكي والحوار والتفاهم التي تجمع الشعوب في مجتمعات ديمقراطية جديدة تقوم على مبادئ دستورية ومدنية، وهو الطريق الوحيد لخلق شعور بالتضامن بين افراد مجتمع اصبح اليوم بالغ التعقيد.