عوبديا وتراث الغناء العراقي

TT

عندما خرج اليهود من العراق بموجب قانون إسقاط الجنسية العراقية لعام 1951، توقفت الساعة بالنسبة لأدبائهم وموسيقييهم، خرجوا الى اسرائيل ولكن قلوبهم وأذهانهم بقيت وراءهم في العراق. اصبحوا يعيشون في قالب الثلاثينات والاربعينات. التطورات التي تلت ذلك اصبحت غريبة عنهم. اصبحت تعني ملة اخرى لا علاقة لهم بها. بل هي ملة العدو في اطار النزاع العربي الاسرائيلي. استطيع ان اتصور المحنة النفسية التي عاشوها. كلما همهموا بلحن او اغنية في الحمام وجدوا انفسهم يترنمون بألحان العدو. كلما استشهدوا بكلام مأثور وجدوه بيتا من اشعار العدو. فهذه الموسيقى الغربية التي يعزفها ويغنيها الاسرائيليون الآخرون غريبة عنهم وهذه اللغة العبرية التي اخذوا يتعلمونها لغة جديدة مجردة من اي خلفية عاطفية او ذكريات شخصية وهذا في الواقع من ابرز خطايا الصهيونية.

ومن ابرز ضحاياها كما يبدو لي الشاعران ابراهيم عوبديا والياهو منصور. ما زال كلاهما يترنمان بذكريات دجلة وألحان أنهر بابل. هناك في التوراة كلام اليهود الذين سباهم واقتادهم نبوخذ مصر ـ انشدوا فقالوا على ضفاف انهر بابل جلسنا وبكينا اذ تذكرنا صهيون.. فلتفقد يدي اليمنى مهارتها إذا نسيتك يا أورشليم. انقلبت الآية الآن بالنسبة لهم حتى لأكاد اسمعهم يغنون فيقولون: على ضفاف طبريا جلسنا وبكينا اذ تذكرنا العراق.. فلتفقد يدي اليمنى اذا نسيتك يا بغداد.

هناك في مقامهم الجديد أسسوا «رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق». بين الفينة والفينة تسلم شيئا من مطبوعاتهم. كان من آخرها ديوان جديد من شاعريات الياهو منصور.

بث فيها ذكرياته وحنينه لضفاف دجلة ومجالس بغداد. كان منها ايضا كتاب جديد باسم «مع الغناء العراقي ـ مطربون ومطربات وأغان من التراث العراقي». هذا كتاب طالما افتقد مثله المغتربون العراقيون في سعيهم للتعرف بنجوم الطرب العراقي. وعليه فهو من هذه الناحية يسد ثغرة كبيرة لا بالنسبة للعراقيين النازحين الى اسرائيل فقط، بل وكذلك بالنسبة للنازحين العراقيين في كل مكان. وهي مساهمة مشكورة للتراث الموسيقي العراقي.

يحتوي الكتاب على كثير من نصوص الاغاني العراقية المعروفة والشائعة ولكنه يضم ايضا بعض الطرائف عن حياة اصحابها، وقد وجدت من أطرفها حكاية المطرب وقارئ المقام شلتاغ وعلاقته بيعقوب الارمني.

ابراهيم عوبديا يكتب وكأنه ما زال في بغداد. انه في الواقع يكتب لكل العراقيين. تفتح كتابه فتفاجئك كلماته حيث تراه يقول: وهكذا اكتشف الاخوة العرب.. ناظم الغزالي. وايضا: في الاقطار العربية دنيا جديدة من الطرب الشعبي العراقي. وايضا: وإن مضى ناظم الغزالي رحمه الله فان اغانيه ما زالت باقية حية لن يموت. وهو يشير دائما للعراقيين في قوله: الاخوان العراقيين.

لقد ألف ابراهيم عوبديا في اسرائيل كثيرا من الاغاني التي لحنت وغنيت باللهجة البغدادية والانغام العراقية ونشرها في مجموعة شعرية تعبر عن حنينه للعراق. استطيع ان اتصور هذا الاديب والشاعر العراقي الاسرائيلي وهو يجلس في مقاهي تل ابيب وفي أذنيه سماعة راديو يستمع فيها الى راديو بغداد. السؤال الآن هو، الى متى ستستمر هذه الجذوة النازحة في اسرائيل وفي الشتات؟ هل ستتواصل في الجيل الثاني الشباب؟