«الحكواتيون» عائدون ومسرحهم الأرض

ألوف منهم يجوبون العالم ومهرجاناتهم بالمئات

TT

انقرض الحكواتي في العالم العربي أو يكاد، لكن الغرب يعيد اكتشاف قيمة القص الشفهي وكأنه عثر على الكنز. والحكواتيون نبتوا من جديد، ويتكاثرون في أميركا وأوروبا، وحولهم تدور عشرات الدراسات، لاستقراء قيمة تلك القصص الجميلة التي رددتها جداتنا على مسامعنا عشرات المرات، ونحن نرتجف تحت الغطاء أيام الشتاء، وكأننا نريد أن نهرب من وإلى عالم يرعبنا ويسحرنا في آن. الحكواتيون يعودون بحلل لم نعتدها من قبل، ويقيمون مهرجانات حول العالم بالمئات، ولهم في لبنان مهرجان سنوي يعيدون من خلاله للحكاية مكانتها، ومنذ أيام أنهى حكواتيون أعمال مؤتمر دام يومين في بيروت، تداولوا خلاله ما لا يخطر على البال.

الحكواتي ليس فولكلورا اندثر على طريقة أبو العبد البيروتي الذي يظهر بطربوشه وسرواله في رمضان ليثير الضحكات، وهو ليس مجرد شخصية تراثية نستذكرها لنترحم عليها والسلام، فوراء التراث الشفهي للأمم غنى يصعب تجاهله. والمؤتمر الذي عقده الحكواتيون، في «مسرح مونو» البيروتي، على مدار يومين الأسبوع الماضي، كشف بوضوح أننا ننام على ثروة تستحق منا جهداً ووعياً كبيرين.

الحكواتيون الذين قابلناهم هناك، هم من جنسيات مختلفة، نساء ورجال، شبان وكبار في السن، مثقفون ويحمل بعضهم شهادة دكتوراه، ولفئة منهم أبحاث قيمة، ولهم معرفة وثيقة بعلم النفس وتاريخ الحكايات وتأثيرها النفسي على السامع. وفي مداخلاتهم الشيقة، شرح الحكواتيون بوضوح ان المستقبل لهم، وانهم يعيدون اكتشاف هذه المهنة بمساعدة الانثروبولوجيين وعلماء النفس والاجتماع، وانهم باتوا كياناً تعترف به الحكومات، وتحسب له كل حساب. وشرح الحكواتي الجزائري سعيد رمضان المقيم في فرنسا، انه تحول من مهنته كأمين مكتبة، كما العديدين من زملائه ليصبح حكواتياً. وإذا كان الأميركيون قد أعادوا اكتشاف هذه المهنة منذ مطلع القرن الماضي، فإن الفرنسيين بدأوا يشعرون بأهمية القصص مع نهاية السبعينات. ورمضان الذي كان في فرنسا حينها، هو أشبه بشاهد على ولادة هذه المهنة هناك، حيث يوجد، وقتها، وبشكل تلقائي، ما يزيد على سبعين شخصاً، يحكون للناس الحكايات، رغبة منهم في ايصال ما تموج به ذاكرتهم للآخرين، ومنذ ذلك الوقت والعدد يتزايد. ومع نهاية الثمانينات، كان جيل جديد، أطلق عليهم اسم «الحكواتيون الجدد» قد تبلورت مواهبه، ونهاية التسعينات وصل العدد إلى المئات وربما زاد على الألف، ووجدت وزارة الثقافة الفرنسية نفسها، أمام ظاهرة لا تستطيع تجاهلها. فهؤلاء ليسوا بالممثلين تماماً، ولا يقدمون المونولوجات، وإنما هم حكواتيون لهم مناهجهم وأهدافهم وخصوصيتهم. وهكذا تم استدعاؤهم عن طريق هيئات تمثلهم، وطلب إليهم وضع خطوط عريضة لميثاق وطني يتم عبره تنظيم عملهم، واعتبر ما يقومون به، إحدى المهن المعترف بها رسمياً. وبات الحكواتي يتمتع مما يتمتع أي صاحب مهنة من ضمانات تكفلها الدولة.

لكن المسألة أعقد من ذلك، فخلال المؤتمر، تم بحث مسائل تفصيلية، ربما لم تكن في خاطر أجدادنا الحكواتيين. فمثلاً، كيف يضمن الحكواتي الجديد حقة في حكاية من تأليفه الخاص؟ وحين يروي حكاية زميل له، ألا يتوجب عليه أن يعلن أمام جمهوره نسب القصة؟ ثم ما هي أخلاقيات المهنة، وهل تحترم بين الزملاء؟ وهل على الحكواتي أن يلتزم نهجاً خاصاً حين يكون مع الأطفال حماية لمشاعرهم من الصدمات التي كانت لا تتجنبها الجدات؟

الحكواتيون يلتزمون في ما بينهم، بقواعد اخلاقية غير مكتوبة. فهم شفاهيون بالدرجة الأولى، ويؤمنون بأن الحكي لا يتبخر في الهواء، لكنهم في ما يخص نسب الحكايات يميلون إلى الطريقة التقليدية التي تعتمد عبارة «روي ان». وقال أحدهم شارحاً، ان القتل والموت والجنيات والعفاريت في الحكايات، لا تصدم الطفوله بل تغذي الخيال. وحين يسأل الحكواتي إن كانت القصة صحيحة، من قبل الصغار، فهو يجيب كما يستدعي التراث الشفهي: «لا أدري هذا ما تناهى إلى سمعي».

فرانسواز غروند حكواتية ماهرة، وصاحبة دكتوراه في علوم القص ولها أبحاث، إضافة إلى انها مسرحية قديرة، وفي مداخلتها التي أثارت غضب البعض قالت: في الأصل الحكواتي هو موفد الملك وحامل رسائله، وكان يتوجب عليه أن يلف ويدور ويختلق القصص كي لا يسمع سيده أي خبر يزعجه. وبالتالي فالحكواتي إن لم يكن كاذباً مراوغاً فهو فاشل. ونحن حين نروي للناس القصص العجائبية بما تحمله من شر وغواية وفتنة وانتقام، فإنما نزعزعهم بفوضانا، وهذا يخلخل العقول، ويهدم البديهيات، ويجد الإنسان نفسه لحظتها في منطقة اللاتوازن وبحاجة لأن يعيد بناء عالمه الخاص. هنا يكمن دورنا كحكواتيين.

وتعتقد غروند أن الحكواتي وجد في كل زمان ومكان، لكن الشرق أكثر قدرة من الغرب على التخييل لأن ذهنيته فوضوية بطبيعتها، لذلك فهي أمهر في التحليق خارج المدارات الفكرية المعروفة.

الحكواتيون مائة صنف، فبينهم الذي يحكي على الطريقة العتيقة، ولا يستطيع أن يروي دون أن يتحلق حوله جمهوره، وهناك الذين يستخدمون الماكياج والأكسسوارات، ويقلدون الأصوات. وثمة فئة تستخدم الآلات الموسيقية، والبعض وهذا لم يعد قليلاً، يمارس القص على خشبات المسارح الكبيرة. والمسرح المونودرامي (او مسرح الشخص الواحد) الذي نشاهده اليوم، هو مسرح الحكواتي الذي فك أسر قيوده التقليدية.

يشرح الحكواتيون أن مسرحهم الأرض. فهم يمارسون عملهم اليوم في المكتبات والمدارس والسجون والمستشفيات والمعارض والمسارح والساحات والحدائق.

ونبه احد الحكواتيين إلى ان الشيخ الذي يستند إلى عصاه وقد أنهكته السنون هو مشهد من الماضي. الحكواتي اليوم قد يكون شاباً صغيراً أو رجلاً مسناً او امرأة فاتنة، وكلهم يمارسون عملهم بمنتهى الجدية. لذلك فإن مئات المهرجانات باتت تقام لهم سنوياً حول العالم. وفي فرنسا وحدها ينظم الحكواتيون حوالي 150 مهرجاناً في السنة، واستطرد الحكواتي ضاحكاً: «أنا لا أعرف حكواتياً افلس أو أغلق دكانه، بل اطمئنكم إلى ان عددنا يزداد، والذين ينضمون الينا كثر».

حين ذهب الحكواتي اللبناني جهاد درويش إلى فرنسا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ووجد نفسه يقص حكايات ضحايا الحرب ومآسي المدنيين على جمهوره، والجزائري سعيد رمضان تصرف بشكل مشابه حين كان يقص على الفرنسيين قصص الجزائريين الغارقين في مجازر تحصدهم بالمئات. ومما رواه الحكواتيون في المؤتمر أن أفارقة وعرباً، هاجروا إلى أوروبا للعمل أو الدراسة، وجدوا أنفسهم منساقين لرواية حكايات شعوبهم، وما في ذاكرتهم من قصص الجدات. لكن هنا استطرد جهاد درويش: «لكن هؤلاء حين يعودون إلى بلادهم، يشعرون بأن من واجبهم أن يعيدوا للحكاية دورها، هذا ما أفعله في لبنان ويقوم به سعيد في الجزائر، وغيرنا في أماكن أخرى. نحن نريد أن نعيد لبلادنا ما فقدته، وربما تناسته، على أهميته».

عالمة النفس العيادي اللبنانية غارين زوهرابيان، تروي كيف أن تجربتها لسنوات مع التحليل النفسي لعبت خلالها قصص الأطفال، التي نعرفها جميعاً، دوراً عجائبياً في شفاء مرضاها الصغار. تعترف المحللة انها لم تقصد استخدام القصص، لكن الأطفال وهم يروون هذه الحكايات بصيغهم الخاصة، التي قد لا تشبه الأصل المتعارف عليه، جرّوها لأن تتساءل عن سر رواياتهم وتحويراتهم. ثلاثة نماذج مثيرة لأطفال تعافوا بالقصص تجعلك تنصت باندهاش. لكن الحكواتية الفرنسية فرانسواز غروند، كان لها تعليق مثير طرحته على المحللة وهي تقول: لم أفهم لماذا روى لك هؤلاء الأطفال قصصاً ذات جذور أوروبية ولم يحكوا حكايات عربية؟ سؤال محرج في مؤتمر كانت كل مداخلاته بالفرنسية. وجاء الجواب أكثر ايلاماً من السؤال، إذ ليس فقط أن اللبنانيين لا يروون لأطفالهم حكايات «علي بابا»، و«رحلات السندباد»، ولا يطلعونهم على مغامرات «علاء الدين والفانوس السحري»، بل ان الكتب التي تقدم هذه القصص لا تجذب الأولاد. وقالت باحثة موجودة في القاعة إن القصص العربية، لم تخضع لدراسات تحلل بنيتها، وتستنبط مؤثراتها، وأهمية ايحاءاتها على المستمع. وعلق الحكواتي الجزائري سعيد رمضان بأن ميشال فوكو ذكر في أحد مؤلفاته أن العرب عالجوا مرضاهم في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بالحكاية.

البعض يعتبر ان الغرب وبسبب عزلة الفرد فيه، عاد إلى الحكواتي في رغبة لاستعادة التماس الإنساني الحار الذي لا يعوضه التلفزيون. لكن آخرين يؤكدون أن الفعل السحري للحكايات على النفس الإنسانية، تجعل عودة الحكواتية، بصيغهم الجديدة والقديمة حاجة ملحة للمجتمعات.

وبينت الباحثة التربوية جورجيا مخلوف ان الحكاية والحلم يشتركان معاً في القدرة على سرقتنا من الواقع. في الحكاية هناك دائماً الشخص الذي يسافر، او يغامر بعيداً عن بيته، ويوجد الجنس، والانتقال إلى عوالم جديدة، ومن بعدها تأتي مواجهة الموت. وانفصال أبطال القصص عن بيئاتهم الأولى يساعد الأطفال، على انجاز استقلاليتهم عن أمهاتهم، ومن ثم استكمال بناء هويتهم الجنسية، والتعرف على الموت من دون دماء وعنف، كما هي الحال في السينما. وببساطة فإن الحكاية هي الذاكرة وقد صيغت كحلم، والذاكرة هي الملكة الأساسية في الدماغ. والحكواتي بهذا المعنى هو الذاكرة التي بدونها لا مستقبل يرجى، فهل عاد عصر الحكواتيين في غفلة من التلفزيون؟