الاستحقاق الأدبي الأكثر تشويقاً في فرنسا انتهى بنيل فرانسوا وييرغان جائزة «غونكور»

باريس: محمد المزديوي

TT

فوز الروائي فرانسوا وييرغان بجائزة «غونكور» لهذه السنة، هو ضربة في الصميم للآلة الإعلامية التي وظفها روائي آخر مثير للجدل هو ميشال ويلبيك على مدار الأشهر الماضية لجعل نفسه المرشح الأوحد للجائزة الفرنسية الأهم. هذه الحملة الإعلامية الشرسة والمكلفة بدت مقنعة للبعض واستفزازية للبعض الآخر. لكن لجنة «غونكور» باختيارها وييرغان يوم الخميس الماضي، أثبتت لمرة جديدة، أنها فوق الضغوط، وخارج اللعبة الاستهلاكية، وان الجائزة التي صنعت نجوم الأدب منذ العام 1903 ما تزال جديرة باسمها.

كما كان متوقعا، وكما نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» في ملحق «المنتدى الثقافي» بتاريخ 26 أكتوبر سنة 2005، حاز الروائي فرانسوا وييرغان، باستحقاق، جائزة «غونكور» أهم الجوائز الأدبية الفرنسية، عن روايته «ثلاثة أيام في ضيافة أمي». وهكذا أسدل الستار على واحدة من أهم الاستحقاقات الأدبية وأكثرها تشويقا في فرنسا لهذه السنة. لقد جمع التنافُسُ المحمومُ الفائز مع ثلاثة روائيين آخرين هم أوليفيه آدم، وفيليب توسانت، وميشال ويلبيك الذي كان إلى وقت قريب المرشح القوي، بل ومن دون منازع، للفوز بالجائزة. وانحصر الصراع في النهاية بين وييرغان وويلبيك، حيث حسمه الأول بفارق صوتين: (ستة أصوات مقابل أربعة).

تأتي نتيجة الجائزة لتبرهن بأن الآلة الدعائية، مهما كانت نجاعتها وجبروتها، لا تكفي لجعل روائي ما يفوز بجائزة ما، كما أن قوة المبيعات أيضا لا تكفي للنجاح. لقد أثبت الكاتب، متعدد المواهب، ويلبيك، أنه بارع جدا في عملية «الماركتينغ» وأيضا في اللعبة الإعلامية، ولكن لا شيء من كل هذا ساعده على تحقيق حلمه. كما أن الماكينة الإعلامية التي قادتها صحيفة «لوموند» من خلال المسؤولة الثقافية السابقة سافينيي، وكذلك من خلال الكاتب الشهير فيلبيب سولرس، الذي صرح لصحيفة «لوجورنال دو ديمانش» بأن القاعدة، نعم القاعدة، تستلزم فوز ويلبيك، والاستثناء الخاطئ هو حرمانه منها، ووصل به الحماس إلى حد إملاء قراره الملزم بوجوب انصياع لجنة التحكيم لرأيه هو، لم تُؤْت أكلها هي الأخرى. أما نوريسيي رئيس لجنة التحكيم، فمن جهته جَاهَر بتأييده منح الجائزة لويلبيك في حين كتب برنار بيفو صاحب البرنامج الأدبي الشهير «أبوستروف» والبرنامج الحالي «دُوبَل جو» مقالا تقريظيا عن رواية ويلبيك «احتمال جزيرة» في صحيفة «لوجورنال دو ديمانش»، وهو ما اعتبر في حينه حظوظا إضافية ستدفع باقي الأعضاء إلى الخضوع إلى هذا الضغط الإعلامي. ولكن صاحب «ثلاثة أيام في ضيافة أمي» عرف، على الرغم من دخوله المتأخر، للحلبة، كيف يدير دفة الصراع لصالحه، خصوصا بفضل قوة روايته واشتغاله الدقيق عليها، وكذلك على تواضعه وبساطته وثقافته الواسعة، ثم من خلال استغلال قصة الرواية والهالة التي أسبغت عليها والانتظار الطويل الذي صاحب صدورها.

لقد صاحب الجدل الثقافي لهذه السنة دخول عوامل غير أدبية في مجال المسابقة، فمعظم النقاد اعتبروا أن معيار جدة رواية ويلبيك لا يكمن في معمارها الروائي وتقنياتها الكتابية، وإنما في تعبيرها فقط عن الواقع الحالي الذي يعيشه الإنسان الأوروبي في هذه اللحظة بالذات من التاريخ، من خلال الحديث (وهو ما يفعله في كل كتاباته) عن الجنس وعن الملل والنحل الجديدة، وكذلك عن نظرته البوهيمية إلى الجنس والمرأة وفقدان الحب، وغيرها من المواضيع التي تخاطب كائنا غربيا مُفْرَغا من العاطفة، ولا يدري إلى أين يسير. ولم يكن غريبا أن يتعرض ويلبيك لضربة أخرى جاءته من زوجته في حوار مع مجلة «إيلْ» النسائية الشهرية، تتحدث فيه عن هروبه من بيت الزوجية من دون أنْ تعرف له عنوانا.

هكذا منحت الجائزة هذه السنة لرواية أصيلة تتحدث عن صميم اللعبة الكتابية. حكاية مُؤلف عاجز عن الكتابة، يحتاج إلى رؤية أمه كيف يستعيد توازنه. روايةٌ تستطيع التخلص من قًدر كان شبه نهائي، حتى أن المشهد الأدبي الفرنسي بدأ رتيبا ومملا من حيث اعتقاد الجمهور بأن الأوراق قد لعبت، وأن ويلبيك سيكون المتوج لا محالة. لقد ظل الحال على ما هو عليه من معرفة مُسبقة عن جائزة لا تستحق سوى تاريخ الثالث من نوفمبر ليعلن عنها كما هو رسمي ومُتدَاوَل، إلى أن جاءت أخيرا الرواية التي طال انتظارها والتي كاد الناس ييأسون، أصلا، منها أو يشككون في وجودها.

لقد أحسنت لجنة الجائزة وعلى الخصوص الكاتب ذا الأصول الإسبانية سوبرون، الذي عبر غير مرة عن تشنجه من الخطاب المعادي للمرأة الذي عبر عنه ويلبيك في كثير من الأحيان، وفي كثير من نصوصه. نعم أحسنت اللجنة فعلاً بمنح الجائزة لوييرغان إذ أنها تمنح القارئ الفرنسي والعالمي، وتترجم بالتأكيد، فرصة التشجيع على قراءة أدب حقيقي ورفيع ينتصر للكتابة بمعناها الرفيع.

من المؤكد أن الكثير من ممثلي النخبة الثقافية أصيبوا بالصدمة من هذه النتيجة، لأنهم يريدون تسويق كاتب يمكن تسويقه وتسليعه، ولكن الكُتاب الذين غطى عليهم الدخول الصاخب لويلبيك سيحسون، من دون شك، بالرضى. أما القارئ فلن يخرج خائبا من قراءة موحية وممتعة.

جائزة «غونكور» الفرنسية لا تتعدى عشرة يورو، تقريبا، فهي إذن رمزية، ولكنها تضْمن على الأقل مبيعات تتجاوز المائتي ألف نسخة. لقد استطاعت رواية «العشيق» للروائية الفرنسية الكبيرة مارغريت ديراس، مثلا، أنْ تتجاوز مبيعاتها المليون نسخة، ومن منا اليوم لا يعرف هذه الرواية.

يبقى أن نشير إلى أن جائزة «رونودو» الهامة أيضا، حازت عليها الروائية الفرنسية الشابة ذات الأصول الجزائرية (أبوها جزائري) «نينا بوراوي» التي تم إقصاؤها، هي والجزائري ياسمينة خضرة، في الدور السابق من التنافس على «غونكور».