«اللوبي الصوفي» يفتح شهية السياسييين لتوظيفه دوليا

تنافس بين المغرب والجزائر على اجتذاب المريدين

TT

رغم أن دول شمال إفريقيا، قضت قرونًا طويلة في محاربة الحركات الصوفية، إلا أن هذا الوضع تغير، وربما أنه يطوى بسرعة لم تكن متوقعة. ومما يثير الاستغراب ان التنافس يحتدم بين أكبر دولتين مغاربيتين للظفر برضا الصوفيين، ليس فقط أولئك الموجودون في المغرب العربي، وإنما الملايين المنتشرون في كل أنحاء العالم.

المغرب الذي يستضيف منذ سنين طويلة، ملتقى دولياً حول التصوف، تعمر خلاله مدينة مكناس بفرق فلكلورية ومحاضرات علمية، يجد نفسه هذه الأيّام في مواجهة تصميم جزائري على افتكاك لقب العاصمة الروحية العالمية، إذ من المعروف أن واحدة من بين أهم الحركات الصوفية، وهي الزاوية التيجانية، يقع مقرّها في الجزائر، ويتبعها عشرات الملايين من المريدين في العالم. هؤلاء الذين ظلّوا رصيدًا غير مستغل دبلوماسياً وسياحياً من طرف الجزائر. إلاّ أن صدفة كون الرئيس بوتفليقة رجلاً طُرُقياً ـ صوفياً ـ قادت إلى اعتراف المؤسّسة الرسمية بهذا البعد في الثقافة الشعبية. ومنذ خمس سنوات عاد الاهتمام الرسمي إلى عالم المتصوّفة والعمائم، وعادت الجزائر لتسترد ميراثها الصوفي. غير أن هذه الالتفاتة بدأت بإغضاب الجارة المغرب، حيث أنّها طوال عقود، مثّلت دور العاصمة الروحية لعشرات من ملتقيات الصوفية، وليس من الوارد أن تتخلّى عن لقبها بسهولة.

هذا التنافس على استمالة الصوفيين، يبدو ظاهرة غريبة جدًّا في شمال إفريقيا، بل لعلّها المرة الأولى التي نشهد فيها هذا التجاذب. فلم يحدث أن تواءم الصوفية مع الدولة الوطنية طوال تاريخهم العارم، الذي حفل بثورات كبيرة خاضوها مع السلطات، لعلّ أشهرها ثورة ( محمّد الزواوي) شيخ (الطريقة الحنصالية) على السلطات التركية، تلك الثورة التي أعلنت في مدينة قسنطينة الجزائرية، كانت مسبوقة بتاريخ كامل من العداء بين الرّسميّين والمتصوّفة، من أيّام دول الموحّدين (541 هـ ـ 1146م)، بسبب النزعة الاستقلالية التي كانت تحكم المتصوفين. فهم يقيمون (زوايا)، أي ما يشبه القلاع، التي تتمتّع بنظام جبائي وأمني مستقل، وتعيش على هامش الدولة غير محتاجة إليها، على شكل حكم ذاتي غير معلن. ويبدو أن هذه الممارسة الاستقلالية، أثارت تاريخياً، غضب السلطات الرسمية التي رأت في الأمر شقًّا لعصا الطاعة ومساسًا بـ(وحدانية السلطة)، فراحت تحارب الصوفيّين وتحاول اجتثاثهم. واستمر الأمر في الجزائر على هذا النحو، خصوصًا أثناء مرحلة الاستعمار، حيث رأى أبو النهضة الوطنية الجزائرية، الشيخ عبد الحميد بن باديس، في سلوك شيوخ الصوفية مداهنةً للاستعمار الفرنسي، فواصل الحرب الرسمية عليهم، وكذلك كان الأمر بعد استقلال الجزائر.

وفي مقابل هذه الحرب الجزائرية على الصوفيّين، فإن الجارة المغرب، راحت تصالحهم تدريجيًا، وتجعل من أتباع طرقهم، الذين يعدّون بالملايين وينتشرون في كل بقاع العالم، رصيدًا ثقافيًا له وزنه وثقله. رغم أن المغرب ليس أثرى من الجزائر في احتضان مقامات ـ مراقد ـ شيوخ الطرق والزوايا.

إلا أن مفاجأة حقيقية، حلّت على التاريخ الصوفي بوصول الرئيس بوتفليقة إلى الحكم. وهو رجل يعتز بميوله الصوفية، ما جعله يطمح إلى مواءمة المؤسّسة الرسمية مع التاريخ الصوفي، ومحاولة استغلال (اللوبيات الصوفية) في العالم الغربي، والتي يشرف عليها جزائريون في الغالب. هكذا أعيد تجسير العلاقات مع كبرى الطرق الصوفية ـ الزاوية العلوية ـ واستعاد رئيسها، الشيخ خالد بن تونس، الرضا الرسمي، بل جرى الحديث بأن السلطات تحاول توظيف حظوته لدى وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي من أجل خدمة أهداف الدبلوماسية الجزائرية، بالموازاة مع ذلك فقد نشطت وزارتا الشؤون الدينية والثقافة الجزائرية، في مصالحة الصوفيّين والتقرّب منهم. علاوة على ذلك فقد جرت عشرات الملتقيات لقراءة تاريخ الصوفية والاستفادة منه ما أمكن. كما أعلنت وزارة الثقافة عن تنظيم ملتقى دولي سنوي للاهتمام بعالم الصوفية، وأوكلت مهمة عمادته لشخصية رسمية جدّ مرموقة، تمثّلت في البروفيسور سليمان حاشي، مدير مركز البحوث في ما قبل التاريخ والانثربولوجيا، وفوق هذا أسبغت عليه رئاسة الجمهورية رداء رعايتها السامية، وخصّصت ميزانية محترمة للغاية. وفي طبعته لهذه السنة سيكون هذا الملتقى عامرًا بمشاركات إيرانية، سينيغالية، سورية، مصرية، قوقازية..الخ. والهدف الكبير هو إعادة تفعيل ما اصطلح على تسميته بـالدبلوماسية الصوفية، لخدمة أغراض السياسة الخارجية الجزائرية، ما جعل المغرب أسيراً لحالة من عدم الرضا بل والغيظ خوفًا على فقدانه ثقل الصوفيّين وحظوتهم.