البكاء على الأطلال ليس حكرا على العرب

وحدهم الذين حياتهم خراب ينكرون الآثار

TT

في دمشق وبيروت، توقف عالم الآثار الفرنسي آلان شناب، ليروي حكاية تعلق الإنسان بالأطلال. فمن حضارتي مصر والرافدين، مروراً بالإغريق والرومان، وصولاً إلى أيامنا هذه، والإنسان يطارد الطلل كما يطارده ظله. طرحٌ يفتح أبواب الأسئلة. حقاً، ما سر هذا الشغف اللامتناهي بالأطلال؟

* يبدو أن سخرية أبي نواس من كثرة البكاء على الأطلال عند الشعراء العرب الذين سبقوه لم تكن في محلها. فالوقوف على الأطلال لم يكن محصوراً بالشعراء العرب، بل هو موضوع إنساني كوني عرفته كل الشعوب القديمة والحديثة. هذا ما رواه آلان شناب، المدير العام للمعهد الوطني لتاريخ الفن في باريس، رغم أنه لم يتطرق إلى الأطلال عند العرب. والأمر يتعدى شعرية الآثار، إلى علاقة الإنسان بالزمن، ومعنى الوجود. وبالفعل هذه المحاضرة تستنهض عند المستمع أسئلة عديدة، منها مثلاً: ما الذي يدفع بعض الناس للاهتمام وإلى درجة الهوس أحياناً بالمقتنيات الأثرية؟ ثم ما الذي يجعل هذا العدد الهائل من السياح يأتون من أماكن بعيدة ليقفوا على آثار دارسة، كآثار تدمر، مثلاً؟! وثمة سؤال آخر، هل كان شعراؤنا القدامى الذين لم تكد تخلو قصيدة من قصائدهم من محاكاة الأطلال، يمارسون تقليداً مبالغاً به، أم طقساً وجدانياً تفرضه عليهم الأحوال الاجتماعية. وهل كان مجرد طقس بدوي، كما يعتقد البعض، وأن الحياة المدنية جاءت وأنهت هذا الطقس؟

يؤكد شناب أن التأمل في الأطلال شيء موجود في كل الثقافات، وأن العلاقة بين الإنسان والآثار ظاهرة كونية قديمة، وأن للآثار المندثرة جاذبية في أي مكان من العالم، بالإضافة للشعرية التي تختزلها، والخيال الذي تنعشه. فهاوي التحف لا يوجد إلا حيثما يجب أن يخيل. هي أيضاً تختزل دلالات رمزية متعددة الأبعاد، منها التواصلية، التي تجعلنا ننجذب إلى قصائد كفافيس التي تزخر بشعرية الصروح والآثار عند الشعوب القديمة.

عند المصريين القدماء كان التعرف على آثار الماضي والعلاقة بالسلالات القديمة، نوعاً من العبادة. أما البابليون وفي بلاد الرافدين، وكانت الاستمرارية عندهم تتم من خلال الكتابة الشعرية والرسائل. ويعد كشف أسرار الموتى عملا من أعمال الآلهة.

أما عند الإغريق، فيلاحظ غياب الاهتمام بالأطلال، في ظل حياة مدن مترفة بالحضور، إذا ما قيسوا باللاتين، الذين تتماهى عندهم الآثار بالعدم، وبالمدينة التي تهدمت، أو أزيلت عن الوجود، كإسبارطة أو طروادة. وفي العالم الغربي ومنذ القرون الوسطى، إلى الغرب الحديث، نجد إن كل شظية باقية من العصر القديم، هي جزء من الزمن الذي يمر، علامة تجعلنا نشعر كم أن وجودنا قصير ومبتسر. فالوعي بالزمن الذي يلتهم كل شيء، ليس فقط موضوعاً يفكر به الشعراء، ويستلهم منه الرسامون، ويستحوذ على رغبات تجار التحف. إنه شيء ينظم وجودنا، ويرتب قدرتنا على تصور الزمن القديم، كما أنه يتحكم بالفكرة التي نشكلها عن المستقبل. 

العلاقة بين الحجر والكتابة على الحجر، هي العلاقة بين الصامت والناطق. جدلية الحجر والزمن، هي رمز للعلاقة بين الذاكرة والنسيان. فالكتابة مقاومة للنسيان، وضد المحو الذي يقوم به الزمن، هي بشكل أو بآخر ضد الصمت والموت. فالكتابة ليست صامتة كما الحجر، بل هي ناطقة تحتاج إلى الفم. والكتبة هم حسب كتاب الموتى: «أهل المعرفة الذين ينتمون إلى الأزمنة التالية لمجيء الآلهة». والكتب «أغلى من حجر جنائزي منقوش/أغلى من غرفة جنائزية جيدة البناء/هذه الكتب هي بمثابة مدافن وأهرامات». ومن خلال الحجر والكتابة، المعمار والقصائد، وعبر تواطؤ خفي بين الذاكرة والزمن بنى الإنسان المسلة أو الصرح.

ويرى فرنسيس بونج: «أن صروح الإنسان تشبه قطعاً من هيكله العظمي، أو من أي هيكل عظمي كان، عظامه كبيرة قشط عنها اللحم. إنها لا تشبه بحجمها أي مسكن آخر. لكن من الكاتدرائيات الأكثر ضخامة لا تخرج سوى جماعات من النمل».

العلاقة بين القصر والمدفن، هي العلاقة بين الإنسان في حياته وفي مماته. والعلاقة بين الكتابة والصرح، كما يراها بورخس، قائمة لأن كلاهما يحفظ الذاكرة من النسيان. ويرى بنيامين بيريت: «إن الآثار هي رمز للإنسان الذي تطارده أشباح مسيطرة، تظل تسكن خياله كل حياته، حتى إذا جاء اليوم الذي يموت فيه يتم حبسه في قصر آخر. هذا القصر بمثابة فزاعة مضحكة، مبني على قياس الدود الذي ينخر. لكن ها هو الإنسان، إنه شبح بحد ذاته، وقصر مسكون بشبحه هو، ومهما ذهب بعيداً، ومهما بدا شاباً، فإن رغبته تأخذ شكل القصر: مغارة ينازع الدب على ملكيتها».

واليوم وفي ظل الحديث عن التنوع الثقافي، فإن اهتمام البشر بالماضي، اعتراه الكثير من التفاوت، لكنه أمر قائم عند كل الشعوب. وهذا ما يبرر وجود المتاحف في كل مدن العالم، وانتشار الحفريات وكثرة علماء الآثار. فالمتحف إلى جانب كونه أرشيفاً للعصر القديم، هو أيضاً تعبير عن رغبة جماعية للبقاء في وجه هشاشة الذاكرة.

يقول بنيامين بيريت:«لا يمكن إنكار أي شيء من الطفولة الجماعية، فيما عدا بالنسبة للمجتمعات التي لم تعد جديرة بذلك والتي لا تمجد هذه الطفولة الجماعية إلا لكي تنكرها أكثر وأكثر. فقد كان موسوليني يحتفي بروما القديمة رغم أن أفعاله كانت تتناقض مع التطور الذي حملته روما القديمة للعالم. وكان ستالين يحاول أن يجعل من لينين أثراً ميتاً لكي يتسنى له أن يخونه أكثر. والأمر ذاته في كل مكان. الآثار ينكرها أولئك الذين ليست حياتهم سوى خراب لا يبقى منه سوى ذكرى بصقة».

إذن، الشعرية وما تتضمنه من حنين وخيال ورغبة في الإبداع، والخلود ومقاومة الموت، كلها تجعلنا كائنات ننجذب إلى الماضي ورموزه. وكما يعبر الكاتب الأرجنتيني الكوني بورخس بهذا الصدد، إذ يقول: «البشر يحبون الماضي، وحيال ذلك لا أستطيع شيئاً أنا وجلادي، لكن في يوم من الأيام سيكون هناك رجل له رائحتي، وهذا الرجل سيهدم أسواري، كما هدمت الكتب، وسيمحو ذاكرتي، وسيكون ظلي ومرآتي دون أن يعلم».