«أرض الآخَرين».. شعرية الحنين

بعد غياب عشرين سنة بشير البكر يصدر ديواناً

TT

منذ ديوانه اللافت «قناديل لرصيف أوروبي» لم نقرأ لبشير البكر، الصحافي والشاعر السوري المقيم في باريس منذ عشرين سنة، كتابا شعريا آخر. يبدو أن الصحافة قد أكلت من وقته وجعلته يُلاحق مستجداتها التي لا تتوقف وخصوصاً في منطقتنا العربية.

ولكن القليلين فقط كانوا يعرفون أنه لم يتوقفْ عن الكتابة، وأن النشر فقط هو الذي لم يكن على موعد. وها هو الديوان الجديد «أرض الآخَرين» الصادر، مثل الديوان الأول، عن «دار الجديد» البيروتية، يرى النور، وبين دفتيه 14 قصيدة.

القارئ المتصفح يُلاحظ طغيان الغربة والبعاد على عناوين القصائد. أما المواضيع فهي تقطر ألما وحزنا وحنينا وشوقا. نقرأ هذه الأشياء من العنوان «أرض الآخَرين»، ثم تليه قصائد مثل: سيرة لا تنتهي، آلام بلاي بوي، وطن، وردة الغياب وأوطان عابرة. في قصيدة «أوراق القات» التي تشير إلى محطة عدن واليمن الجنوبي في حياة بشير البكر. وهي قصيدة تنضح حزنا ووفاء لهذا البلد الذي احتضن الشاعر بعد المرحلة البيروتية القاسية. ولكن النهاية كانت فاجعة ومؤلمة قدر ألم الحرب الأهلية التي خرَّبَت البلد.

«في البدء خلق الله القبيلة،/ في البدء يأتي الغراب،/ ثم يهترئ العالم،/ إلى غبار وسجون./ الضحايا يرحلون إلى وحشة قطارات الموت،/ ليس بوسعهم الانتظار أكثر، فالأمر لنْ يختلف في القرن القادم،/ يذهبون تاركين الأرامل لحقول يابسة،/ بعض آلام تلمع ببطء،/ مثل لحن ليلي بعيد،/ يخترق الشارع،/ ولا يصل إلى الرأس.» (84-85) وفي قصيدة «وردة الغياب» التي تفوح حزنا عميقا، نقرأ: «الأيام تذهب وتأتي،/ العالَم يحترق من حولها،/ صامدة كالفضة،/ ليس بوسعها أن تجتاز،/ النصف الباقي من الطريق،/ تدحرج أَلَمَها أمام الجبال./ فعلت ما بوسعها/ لكن الممرات كانت مغلقة/ والقمم مزروعة بالعزلة/ والجنود.» (64)

من حق القارئ لهذا الديوان أن يتساءل مع نفسه عن الجديد الذي يمكن استشفافه. وبسرعة سيراه في هذا الشيء الذي يمكننا أن نطلق عليه «شعرية الحنين»، الحنين إلى أرض أصبحت أرضا للآخرين، أو إلى أصدقاء رحلوا موتا من الشوق والبعاد ومن بينهم القاص السوري الراحل جميل حتمل أو من غاب عن العراق أكثر من عشرين سنة وضاع في أرصفة المنافي الباردة والصماء والتي لا تنتهي. مشاعر كثيرة من اللاطمأنينة (استعارة من الشاعر البرتغالي الكبير فيرناندو بيسوا) تصدمنا في الديوان، عبارة عن كآبة عميقة يشتغل عليها الشاعر، هذه الكآبة التي إذا أُحْسِنَ استخدامُها وتطويعها، تصنع الشعر والشاعر.

«كل ما أرى يتعثر،/يسقط بلا مبالاة./ كأنّ الحفرة تتسع،/ والأجنحة تتكسر/ في رحلة الفصول./ بلا نهاية/ يتدحرج الألق الباقي،/ كالأعمى في كل مكان.» (32) عند الانتهاء من قراءة الديوان، نخرج بالانطباع الذي لا يخطئ، وهو أن القصيدة التي تدخل بسهولة في أعماق أعماق القارئ يجب بالضرورة أن تكون من النوع الشخصي أو الذاتي أو الجواني، وليس قصائد المواقف السياسية الكبرى والبهرجة التي تذهب بروحية الشعر، وهي كلها مجتمعة في ديوان ينضح تفردا وحزنا وتوحدا. «هكذا، في بلاد لا تشبه ظلالنا،/ سنوات في الأرض،/ وطريق العطش./ في مفارق الطرق،/ حروف مائية،/ ترسم خطّ السفر،/ فوق ثلوج الصيف الحارة.» (44 ـ 45)

الديوان الجديد للشاعر بشير البكر هو إضافة إلى متن الشاعر نفسه، ومن هنا لا يتمنى القارئ المنحازُ للقصيدة الجديدة أن ينتظر أكثر من عشر سنوات حتى يقرأ الديوان الثالث.