ضريح عرفات سابح في الماء ومستوحى من الكعبة المشرفة

مليون دولار لتشييد قبر الرجل الشريد الذي لم يستكن بعد

TT

وضع الحجر الأساس لضريح الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بمناسبة الذكرى الأولى لوفاته، على أن يدشن بعد عام. هذا الضريح الذي صممه جعفر إبراهيم طوقان، ابن الشاعر الفلسطيني المعروف، أريد له أن يكون محملاً بالرموز، يستحق قراءة أدق تفاصيله الصغيرة. ضريح مستوحى من الكعبة المشرفة، مرتفع عن سطح الأرض، يعوم على مسطح مائي، إلى جانبه مصلى ومتحف وحدائق مزروعة بالزيتون، إضافة إلى منارة تدل عليه من بعيد. مشروع تكلفته مليون ومائة الف دولار أميركي يدفعها الفلسطينيون من جيوبهم، مساهمة في تكريم ذكرى راحلهم. لكن الأهم من ذلك كله أن الضريح مصمم بطريقة تجعله صالحاً للترحال، تطبيقاً لوصية عرفات حين تصبح الظروف سانحة لنقله إلى القدس.

* حظي المهندس المعماري الفلسطيني/الأردني جعفر طوقان، بثقة رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، اثناء حياته، وصمم له بعض مقراته، مثل قصر الضيافة الفخم في مدينة بيت لحم. وفي الذكرى الأولى لرحيل عرفات، بدأ البناؤون الفلسطينيون يوم السبت 19 نوفمبر، بالعمل على بناء ضريح عرفات في مقره الأخير في المقاطعة بمدينة رام الله، الذي صممه طوقان، المهندس الأثير لدى عرفات. ضريح له خصوصياته الهندسية التي نفهمها بشكل أفضل بمعرفة واضع التصميم.

المزج بين الاصالة والمعاصرة

جعفر طوقان هو ابن الشاعر الفلسطيني الشهير إبراهيم طوقان. اكتسب شهرة كبيرة كمعماري في العالم العربي، لتصميماته التي وجدت طريقها للتنفيذ، خصوصا في الأردن ودول الخليج، ولفتت الانتباه مبكرا إليه.

كانت دراسته الأكاديمية، بين عامي 1955-1960م، في مرحلة ساد فيها ما يسمى (العمارة العقلانية) برز خلالها عدد من المشاهير. وهي مرحلة جاءت نتيجة تطور فن العمارة، بعد أن دخلت، في تحول كبير بداية القرن العشرين مع ترسخ الثورة الصناعية بشكل غير مسبوق.

بعد تخرجه، نفذ طوقان أعماله المبكرة في دول خليجية وفي الأردن، خصوصا في العاصمة عمان التي يرى أنها شهدت انفجارا اجتماعيا واقتصاديا متشابكاً ومتقارباً مع التشكيلات البنائية. قدم طوقان في عمان أكثر أعماله جمالية مثل البنايات الخاصة، كقصر القطان مثلا، وبنايات لبنوك، والمقر الجديد لأمانة عمان الكبرى وأول بناية زجاجية في المدينة، وغيرها عشرات التصاميم المعاصرة التي استفاد فيها طوقان من العمارة التقليدية، من خلال الأروقة والشبابيك والأبواب وتفاصيل أخرى كثيرة وعديدة.

يؤمن طوقان بشدة بالمزج بين الاصالة والمعاصرة، وبين العمارة التقليدية والحديثة، ويعترف بمساهمة المعماريين على زيادة طغيان الأسمنت وزحفه على المساحات الخضراء، قائلا: «نحن المعماريون خربنا كثيرا في الطبيعة وأحيانا نعمل على التكفير عن هذا الخراب».

وخلال السنوات الماضية تنقل طوقان كثيرا بين الأردن والأراضي الفلسطينية، ويحلو له وصف دخوله الأراضي الفلسطينية بشكل شاعري قائلا: «رغم المصاعب والحواجز العسكرية والانتظار إلا أن دخولي إلى فلسطين هو مثل الاحتفال، سرعان ما أنسى الحواجز والجسور، عندما تقع عيناي على تلال وصخور وزيتون فلسطين».

حصل طوقان، تتويجا لإبداعاته الهندسية على جائزة أغاخان للعمارة الإسلامية، ويخصص وقته الآن لإدارة مكتبه الهندسي، في عمان، الذي يعمل فيه، وتحت إدارته عدد كبير من المهندسين، من كافة التخصصات.

الكعبة والماء

كان طوقان حاضرا يوم الجمعة 18 نوفمبر عندما وضع محمود عباس (أبو مازن)، رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس وزرائه احمد قريع (أبو العلاء)، حجري الأساس بشكل رمزي، للإعلان عن بدء بناء الضريح الذي سيستغرق 8 اشهر كما أعلن الدكتور محمد اشتيه، وزير الإسكان والأشغال العامة.

وكان عرفات دفن في المقاطعة بعد وفاته في مشفى بيرسي العسكري في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية، باريس، وجهز له مدفن على عجل، ووضع في تابوت إسمنتي، في إشارة إلى إمكانية نقل رفاته فيما بعد ليدفن في مدينة القدس، حسب وصيته، ولكن الاحتلال الإسرائيلي منعه من تحقيق هذه الرغبة.

وبعد دفن عرفات، أدخلت تعديلات على الضريح وتم بناء مظلة فوقه، ووضع حرس شرف بشكل دائم في المكان، يتناوبون على الوقوف فيه.

وكان المهندس طوقان قد جال في المقاطعة، التي تعرضت لتدمير من قبل قوات الاحتلال التي حاصرت عرفات أكثر من مرة، لدراسة فكرة وضع تصميم للضريح.

وعن هذا التصميم قال طوقان، في حديث لـ «الشرق الأوسط»، بأنه يعكس حالات رمزية لواقع الشعب الفلسطيني وزعيمه الراحل عرفات، والى القضية الفلسطينية ومدينة القدس، العاصمة المرتجاة للدولة الفلسطينية المقبلة.

وأشار طوقان بأنه استلهم في تصميمه للضريح مبنى الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، وهو ما يرى، بأنه مبنى بسيط، ذو شكل رباعي، وسيكون مرتفعا بطول 12 مترا، ومفتوحا من الجهات الأربع.

وأضاف طوقان بأنه سيتم تزيين الضريح ببيت من الشعر، أو قول مأثور، أو شيء مشابه، عن عرفات وفلسطين على شريط يزنر الجهات الأربع شبيه بالنقوش والرقوم على المباني الأثرية. وسيكون الضريح مرتفعا عن الأرض ويقع على مسطح مائي، يغمر قاعدة الضريح. ويعلق طوقان: «أردت للماء أن يغمر القاعدة تعبيراً عن التفاؤل».

وبجوار الضريح سيبنى مصلى يتسع لنحو 250 مصليا، ومقسم للرجال وللنساء، ويمكن أن يستخدم كقاعة اجتماعات أيضا، وهو يحمل أيضا معنى رمزيا بحسب طوقان، ويعبر عن العلاقة بين القضية التي يمثلها عرفات وضريحه بالدين الإسلامي، وبجوارهما ستكون هناك حديقة خضراء ترمز إلى استمرارية الحياة رغم المصاعب. وستكون الحديقة بمساحة 5 دونمات من ارض المقاطعة، تزرع بالزيتون وأشجار حرجية مع أرضية من العشب الأخضر.

ويشرح طوقان: «الممر الذي سيصل الضريح يقترب صعودا من جهة القبلة، من منصة الضريح الواقعة في مسطح مائي».

وافتتح لهذه الغاية باب جنوب المقاطعة ليكون ممرا مبلطا بالحجارة، يمضي مرتفعا كلما تم الاقتراب من الضريح.

وبالإضافة إلى الضريح والمصلى، ستبنى منارة بطول 25 مترا ترمز للضريح وتدل عليه من بعيد. وهناك مشروع مستقبلي لبناء متحف يضم متعلقات عرفات.

وجميع مكونات الضريح ومرفقاته ستبنى من الحجارة المستخرجة من منطقتي القدس وبيت لحم، ومن بينها الأرضيات، وسيكون حجم كل حجر مترا مربعا.

وسيكون الضريح ومنطقته على شكل مثلث قاعدته السور الجنوبي لمقر المقاطعة، ورأسه عند المكان الذي عاش وعمل فيه عرفات، وهو المكان المفترض للمتحف الذي سيحمل اسمه.

وتصميم منطقة الضريح، هي جزء من إعادة هيكلة مقر المقاطعة، التي سيطلع بها طوقان وفريقه من المهندسين، وسيتم إنجاز ذلك، خلال عدة مراحل، تنتهي في غضون عامين.

أموال فلسطينية

تقدر تكلفة البناء بمليون ومئة ألف دولار اميركي، تدفعها وزارة المالية الفلسطينية. وقال الدكتور محمد اشتيه، وزير الإسكان الفلسطيني، الذي رافق المشروع منذ بدايته، بأن العديد من الجهات (ومن وصفهم بالاخوة) من الذين يقدرون عرفات ويكنون مشاعر له، عرضوا تحمل تكلفة بناء الضريح، لكن السلطة الفلسطينية رفضت ذلك وأصرت أن يتكلف الشعب الفلسطيني بذلك. وأضاف أشتيه قائلاً «دافعو الضرائب من شعبنا الفلسطيني هم الذين سيمولون بناء الضريح، لكي يشعر كل فرد من أبناء شعبنا، بأنه ساهم بشكل شخصي في تخليد ذكرى الزعيم الرمز». وأوضح «لا أريد أن يفهمني احد من أبناء شعبنا خطأ، فنحن لن نجمع ضرائب إضافية، أو نحسم من رواتب الموظفين لهذا الغرض، ولكن التمويل سيكون من الميزانية الفلسطينية».

ورأى اشتيه أبعادا رمزية لبعض مفردات الضريح غير تلك التي تحدث عنها مصممه جعفر طوقان، قائلا بأن المسطح المائي، وارتفاع الضريح عن الأرض يعبر عن موقعه المؤقت، حتى يعاد دفن رفات عرفات بمدينة القدس، حسب رغبته ووصيته.

وكشف اشتيه بأن تصميمات الضريح استغرق وضعها من 8 إلى 9 شهور، واطلع عليها العديد من المهندسين الأكفاء. وحسب اشتيه وطوقان، فإن فريقا من المهندسين شارك في إعداد التصاميم من مكتب طوقان، عددهم تسعة، من كافة الاختصاصات المعمارية والإنشائية، والكهربائية، والتمديدات المائية وغيرها، إضافة إلى مهندسين من المجلس الفلسطيني للإنماء والإعمار (بكدار) الذي يقوده اشتيه منذ تأسيسه. كما تمت الاستعانة بلجنة شكلت من عمداء كليات الهندسة في الجامعات الفلسطينية، ومهندسين آخرين معروفين لتكون لجنة استشارية. وبعد تسعة اشهر من العمل، تم الاتفاق على التصميم، الذي وضع حجره الأساس، وسيتم افتتاحه العام المقبل في ذكرى وفاة عرفات الثانية.