سينما الجزائر والقانون الجديد ..هل ستتحرك المياه الراكدة؟

الغيرة من الجيران دافع لتشجيع الاستثمار

TT

أخيرا، سيكون أمام المخرجين والمنتجين السينمائيين الراغبين بالاستثمار في الجزائر، فرصة معقولة لتنفيذ مشاريعهم،

وسيكون لقاعات السينما في الجزائر إطار قانوني يحيطها بالرعاية والتنظيم. هذا ما يعتقده صنّاع القانون الجديد للسينما بالطبع!

ظل المشهد الثقافي الجزائري مكسور الجناح سينمائيا، ذلك أن الجزائر التي ورثت عن المستعمر الفرنسي بضع عشرات من دور السينما المحترمة، وبضع مئات من القاعات الصالحة للعرض ولأشياء أخرى! هذه البلاد نفسها أقامت منذ عام 1968 قانونا اشتراكيا للسينما، يود تحويلها إلى سلعة (ذات منفعة عامة) تماما كما تقول بيانات وزارة الفلاحة الجزائرية في حديثها عن مبيدات الحشرات الضارة!

القانون السابق للسينما كان قد أمم الحياة السينمائية إنتاجا وتوزيعا، وفي مقابل تقييده لحريتها وخفضه لسقف حركتها، جاء بمؤسسات وضعت بين يدي المخرجين في حينه إمكانيات هائلة، من مخابر تحميض وكاميرات تصوير من آخر طراز، بالإضافة إلى حشد رأسمال ضخم للعملية الإنتاجية، وكانت ثمار هذا التأميم عدة أفلام ناجحة إقليميا ودوليا مثل (وقائع سنين الجمر) للأخضر حامينة، والسلسلة البوليسية الفكاهية (المفتش الطاهر)، بالإضافة إلى عدة أفلام تاريخية لعل آخرها (الشيخ بوعمامة).

إلا ان التشريعات السينمائية الجزائرية راحت تثبت قصورا يعجز عن ملاحقة الواقع المتغيّر، هكذا فقد استُحدِثت ثلاث مؤسسات إنتاجية وتوزيعية كصيغة مؤقتة لضمان انتقال المجموع السينمائي إلى عصر الاقتصاد الحر. وكانت الخاتمة أن حُلت هذه المؤسّسات الانتقالية وأعلنت الدولة استقالتها نهائيا من هذا المجال، فيما وزعت تركة المؤسسات الضخمة من مخابر وكاميرات تصوير حديثة للغاية على عدة جهات، بينها جمعيات أهلية أسسها سينمائيون سابقون.

حدثت استقالة الدولة في بداية التسعينات، أي عشية اندلاع الأحداث الدموية، ونتج عن كل ذلك تخلٍّ مبرمج عن القاعات السينمائية التي استولى عليها الخواص، وتحولت إلى قاعات لعروض الفيديو من الدرجة الدنيا، فيما غزتها الأوساخ، وأصبحت مكانا مفضلا لعقد المواعيد الغرامية ذات الصبغة الخاصة للغاية! والمحصلة أن قطيعة حصلت بين الجمهور السينمائي وقاعات العرض، وحل بدل ذلك الجمهور النوعي أو العائلي جمهور آخر مراهق، لا يعترف بالسينما إلا كما يعترف بنظرية داروين! وحصلت قطيعة بين المخرجين الجزائريين والعمل في بلدهم، حيث أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، توعدت معظمهم بالويل والثبور. فطار جزء مهم من هؤلاء المبدعين إلى الخارج الأوروبي عموما والفرنسي خصوصا، وتعلموا هناك كيف يصنعون أفلاما تحت الطلب، بحيث يسوقون أنفسهم ويضمنون شيئًا من النجاح المادي. من هؤلاء المخرج المعروف مرزاق علواش الذي يعد مثلاً لسينما جزائرية الاسم متشعبة التفاصيل!

مع هبوب تيارات السلم الأهلي، عادت كثير من الأصوات لتطرح التساؤل المر عن مصير السينما الجزائرية، خصوصا أن الغيرة من الأشقاء والجيران قد تحولت إلى هوس حقيقي. إلا أن وزير المالية الجزائري، البروفيسور عبد اللطيف بن أشنهو، وقف في وجه أي دعوة لصرف أي دينار على السينما، فقد كان ذلك الوزير الراحل يعتقد أن السينما نشاط ربحي خاص لا يحتاج دعما! بينما اعتقدت وزيرة الثقافة أن السينما جزء من الخدمة الثقافية العمومية، وبين الوزيرين تأخر الإقلاع ثلاث سنوات إضافية!

لكن أخيرا، تغيرت الظروف، وفطنت وزارة الثقافة إلى ضرورة نفض الغبار، فحضرت مسودة أولية لقانون جديد للسينما، جمعت ذوي الاهتمام المباشر به في ندوة وطنية، قصد مراعاة كامل التفاصيل الممكنة، كما فتحت ورشة جدية للعمل. القانون الجديد، الذي وقعت مسودته بأيدينا، يحفل بالكثير، فهو أول قانون جزائري يعترف فعليا بالنشاط الاستثماري السينمائي الخاص، كما أنه يؤطر عملية تأميم انتقائي لبعض القاعات ذات الصبغة التاريخية ممن استولى عليها، ويضع مرسوما لتصنيف القاعات السينمائية وفق المقاييس العالمية، ويحفظ للأفلام الجديدة تنافسيتها من خلال تحديد تواريخ السماح بالعرض التلفزيوني لأي عمل جديد. من جهة أخرى يظهر أن المسترعين انتبهوا إلى غياب أي ذاكرة سينمائية للبلد، إذ يسمي المشروع مركزا وطنيا للحفظ والرقمنة السينمائيين، لتجميع كل ما أنتجت الجزائر أو عرضت من أفلام، وهو أمر كان غائبا، كما يرسم حدود إنتاج المهن السينمائية من خلال إعطاء دفع جيد لمركز تكوين المهن السينمائية، الذي يرتقب أن تحتضن بناءه إحدى مدن الجنوب الصحراوية.

إلا أن هذا القانون الجديد سوف لن يتحول إلى ممارسة قبل 9 أشهر على الأقل، هي مدة مروره على الدواوين الحكومية بكامل بيروقراطيتها، كما أنه سيلاقي مكافحة رهيبة من قبل مستغلي دور عرض الفيديو هؤلاء الذي لا يعرفون أي شيء عن جوليا روبرتس وإن كانوا يعرفون كل شيء عن باميلا أندرسون! إذ أن عائد الاستثمار في سينما المراهقين بكامل بذاءتها وعريها رهيب جدا في الجزائر، وقد سمحت له سنوات الغياب الرسمي عن الميدان بتكوين وتطوير آليات ممانعة أو وسائل تحطيم جادة لكل من يمكن أن يخدش جيبه!

بين جناح الرغبة الرسمية في الذهاب إلى الأمام وقيد الرغبة الخاصة في الحفاظ على ربح الراهن تحاول السينما في الجزائر أن تطير إلى سماء جيرانها على الأقل!