عبد القادر الجزائري قاتل الاستعمار والانغلاق معاً

واسيني الأعرج في «كتاب الأمير» يعيد الاعتبار للقائد العربي

TT

صدرت أخيرا في الجزائر رواية جديدة للروائي الجزائري، واسيني الأعرج، بعنوان «كتاب الأمير». إنها رواية عن شخصية تاريخية استثنائية، ميزت التاريخ العربي الحديث، إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، هي شخصية الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري، كما يمكن اعتبارها أيضا درسا عميقا في التاريخ والحوار الحضاري والتسامح الديني.

ذلك جانب عملت هذه الرواية، على امتداد صفحاتها العديدة، على تجسيده، من خلال وعيين وشخصيتين متشابهتين في نمط التفكير، هما شخصية الأمير عبد القادر، من خلال رغبته في بناء الجيش ومحاربة المستعمر وتأسيس الدولة الوطنية، وشخصية مونسينيور أنطوان أدولف ديبوش، أسقف الجزائر انذاك، بكامل ثقلها ووظيفتها في توجيه الأحداث والمصائر في هذه الرواية، فهو الذي ظل يدافع عن الجزائر وعن رجلها الكبير «الأمير»، كما جعل حياته كلها رهن تبرئته وإطلاق سراحه من سجنه بقصر «أمبواز» بفرنسا، حيث لم «يكن الأمير إلا صورته الأخرى في الجراحات التي عاناها»، تقول الرواية (ص328)، هو الذي كتب كتابا بعنوان «عبد القادر الجزائري في قصر أمبواز» عام 1849، كما تمثلت رغبته، قبيل وفاته، في أن ينقل جثمانه إلى الجزائر، كاختيار لمثواه الأخير، بحيث يتم إبراز هاتين الشخصيتين، في الرواية، باعتبارهما تجسدان قيم التسامح الديني وتنتصران للحوار الحضاري، بين حضارتين وثقافتين غير متكافئتين.

ويشكل محكي «الحرب» في هذه الرواية عنصرا أساسيا ومهيمنا في بناء المتخيل الروائي فيها، إلى جانب محكي «المنفى»، بحيث نحس بهذين المحكيين يسيران في تواز وتبادل للأدوار فيما بينهما. يتم الحكي عن «الحرب»، هنا، في صورها وأجوائها ومظاهرها الحضارية العنيفة والمتعددة: الحرب مع المستعمر الأجنبي. إلى جانب ذلك، يتم الحكي كذلك عن مرحلة «المنفى»، المتعلق بشخصية الأمير وهو سجين بقصر أمبواز، بما ترتب عن ذلك من دخول الأمير في حوار حضاري وديني مع زواره من الأجانب، وبما وفره له السجن من مجال للقراءة والكتابة، بما في ذلك كتابته لسيرته التي كان يمليها على امتداد الرواية على كاتبه المصطفى بن التهامي، وقراءاته الموازية لبعض الكتب.

رواية «كتاب الأمير» عموما تتوزعها حالتان أساسيتان: حالة من الصخب الذي تولده الحروب والفتن وأصوات السيوف والبنادق والصراخ والعويل ووقع حوافر الخيل الجامحة وذوي صهيلها ورائحة البارود وروائح الجثت وإحراق الكتب وأصوات المدافع والقذائف والكواسر والغربان والذئاب، وحالة من السكون الذي خيم لمدة على قصر أمبواز، حيث سجن الأمير ومن معه، بما تخلل هذه الفترة من حوارات هادئة بين الأمير عبد القادر وزواره، وخصوصا مع أنطوان ديبوش، حول قضايا الدين والتسامح والحرية والخير والكرب والمرأة والخيل وديون ديبوش، وحول الرسالة التي كتبها أنطوان ديبوش إلى نابليون في شأن تمتع الأمير بحريته.

تنضاف إلى هاتين الحالتين حالة من الشاعرية التعبيرية التي أضفاها الكاتب نفسه على فضاء روايته، عبر العديد من المشاهد الوصفية واللقطات التصويرية الطبيعية، من قبيل تلك التي خص بها مجموعة من مفتتحات مقاطع روايته.

وبخلاف الروايات التاريخية الكلاسيكية ذات المنحى الرومانسي والخيالي الحالم، فإن رواية «كتاب الأمير» عملت على نزع أسطورة «السلطة» عن هذه الشخصية التاريخية، من خلال منظور، يتم عبره تشخيص البناء الدرامي لشخصية «الأمير عبد القادر»، لكنه منظور لا يمجد الماضي وبطولاته، بقدر ما هو منظور انتقادي للذات وللآخر على حد سواء، حيث إن علاقة الأمير بالسلطة في هذه الرواية يميزها سلوك عقلاني واقعي مطبوع بنكران الذات ونقدها، حيث نجد الأمير، على سبيل المثال، ينتقد مسألة إعدام والده لقاض، كما أنه لا يتوانى في الاعتراف بأخطائه وأنانيته، بل وشعوره بالعجز أمام التحولات المتسارعة من حوله: «أشعر أنني لست مؤهلا لقيادة أمة (...) أخبروا الحاج الجيلالي، مسير شؤوني الإدارية، بأنني أرغب في الذهاب إلى المغرب أنا وعائلتي. لم أعد صالحا لقيادة هذا السيل من البشر وعلى فهم نوازعه وشهواته (...) أنا على حافة زمن لم أعد أفهمه جيدا.. (ص155). وتتم صياغة ذلك كله في هذه الرواية وفق مواقف إنسانية عليا، بما يضفي على شخصية الأمير صورة مضيئة من الوقار والقداسة: «أشرق وجه الأمير وصار صافيا فجأة. من أين يأتيه كل ذلك النور، تساءل مونسينيور»(ص42)، «بل إنه قد بدأت تنسج العديد من القصص والخوارق العجيبة حول انتصاراته» (ص 414). هي إذن رواية تعيد الاعتبار لصورة الحاكم العربي، وللإنسان العربي والمسلم بشكل عام، بعد أن اهتزت هذه الصورة، في الداخل والخارج، في الماضي كما في الحاضر، نتيجة تضافر العديد من الظروف التاريخية: «ها قد عدنا لإسلام لا يعرف إلا الحرق والتدمير والقتل والإبادة والغنيمة كما ألصقت هذه الصورة بنا»(ص358 ـ 359).