34 إذاعة تطلقها الأمم المتحدة بعشرات اللغات لمخاطبة السودانيين

مثقفون يتوجسون من نوايا تقسيم لبلدهم تختمر خلال البث

TT

أعلنت بعثة الأمم المتحدة في السودان، عن افتتاح 34 إذاعة ناطقة بلغات مختلفة، بهدف التواصل مع سكان المناطق على اختلاف ثقافاتهم والسنهم، على مدار اربع وعشرين ساعة، دون أن يكون للحكومة أي سلطة على نوعية البث أو توجهاته. هذا المشروع أثار ريبة الكثير من المثقفين السودانيين. فالراديو يستطيع أن يبث سمومه في كل اتجاه، كما بمقدوره، من ناحية أخرى، أن يعيد للمهمشين إحساسهم بالوجود، حين يخاطبهم وللمرة الأولى بلغة يفهمونها.

الخلاف حولها بين أهل الفكر والقلم، هوته عميقة على ما يبدو.

لم تكن مفاجأة أن تقوم بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم، بالإعلان من خلال مؤتمر صحافي، عن مشروع لإطلاق إذاعات بمختلف اللغات (في السودان 53 لغة غالبيتها غير مكتوبة) في عدد من المدن السودانية. فالأمم المتحدة تريد أن تعزز وجودها السمعي، بعد أن عززت وجودها البصري في البلاد، بمئات السيارات التي تجوب الشوارع، والقبعات الزرقاء التي تتجول وتفض النزاعات هنا وهناك. هذا عدا المبنى الأممي الضخم، وسط الخرطوم الذى يعج بمئات العاملين، أضف إلى ذلك آلاف الجنود شرقا وغربا وجنوبا في عمليات ما بات يعرف بحفظ السلام!

تحدث مدير المشروع الإذاعي، الهولندي ليون وليام، في المؤتمر الصحافي الذي أقامه، عن أسباب إنشاء الإذاعات، التي لا تملك الحكومة تجاهها غير خيار الموافقة، قائلا: ان ارتفاع معدلات الأمية يجعل من هذه الإذاعات، وسيلة اتصال على مدار 24 ساعة، تغطي كل السودان وهدفها تزويد الشعب السوداني بمعلومات صادقة ودقيقة عما يجري يومياً، كجزء مكمل لمهمة تنفيذ اتفاق السلام، وخلق ساحة للحوار بين كل الأطراف. فالمجتمعات التي تكون خارجة من حالة صراع، لديها كثير من القضايا التي تحتاج للبحث والنقاش. وأضاف وليام:الإذاعات الثلاث الأولى ستنطلق من الخرطوم والثانية من دارفور باللغة المحلية، والثالثة من مدينة جوبا في جنوب البلاد بلهجة ما يعرف «بعربي جوبا»، إلى جانب ست لغات رئيسية في الجنوب، واستطرد قائلاً: «من المهم جداً أن يفهم السودانيون أن بلدهم متعدد الاعراق والاديان والثقافات». كما تقوم الإذاعات بتزويد الناس بمعلومات عملية حول نزع الالغام والطرق الآمنة وعودة الناس الى أماكنهم، وتوعيتهم في مجالات الصحة وما تقوم به وكالات مثل اليونسيف، بالإضافة الى البرامج التثقيفية والترفيهية.

وختم الرجل تصريحاته بالقول: ليس للحكومة السودانية أى دور رقابي على البث وليس لها حق التدخل، وسيزداد العدد ليصل الى 34 إذاعة، ناطقة بعشرات اللغات الموجودة في البلاد.

موافقون!

أثار خبر إنشاء تلك الإذاعات كثيرا من الجدل، فمنهم من وجد دورها ايجابيا، كما الكاتب زهير السراج الذي قال لـ «الشرق الأوسط»: «لم يعد الأثير ملكا لأحد. ويمكن للأمم المتحدة أن تبث برامجها من أى دولة مجاورة. أنا متفائل بتلك الإذاعات وأشجعها، لقد قمت بزيارة للجنوب منذ فترة، وصدقيني إذا قلت أن بعض المناطق ستتعامل مع راديو الترانزستور كآلة خارقة. هؤلاء سيستمعون للمرة الأولى في حياتهم، الى جهاز إعلامي بلهجة يفهمونها. وسيعرفون من هم، وما هي حقوقهم وواجباتهم، وسترتفع بالتالي معنوياتهم. التهميش ليس إقتصاديا أو سياسيا فقط. التهميش هو شعور هؤلاء بأنه لا يوجد من يخاطبهم بلغتهم».

وللكاتبة آمال عباس رأي مؤيد أيضا، وترى ان «السياسات الحكومية هي وراء كل القوى الأجنبية التي ترسخت أقدامها في البلاد، ولم يعد من المجدي الاحتجاج على تواجدها. علينا أن نتقبل الواقع. الإذاعات ستتيح فرصة للطبقات المهشمة لإبراز ثقافاتها وهوياتها. في الجنوب إرث ثقافي هائل لم يستثمر بعد، ظل مجهولا، ومخفيا عنا. ستعطي الإذاعات فرصة لنشر الإبداع وتوظيفه وتنميته، ونتمنى أن تتطور التجربة وتتوسع لنرى تلفزيوناً، في المستقبل القريب».

إعلام فرأي.. فانفصال!

الإذاعات تقول لكل مستمع: أتينا نحن إليك، نهتم بك، نسمع رأيك، نتحدث بلغتك، نعطيك فرصتك لتعبر، ندعم ثقافتك، ندافع عن هويتك، نحمل شعارك.. وبالتالي نشجع انفصالك عن الدولة التي تجاهلتك لعقود طويلة. الانفصال الذي بات موضة الحركات السياسية في البلاد، يثير حفيظة كثير من المثقفين، الذين يحذرون من دور هذه الإذاعات، خصوصا أنهم يؤمنون بأن ثمة من يحرك الأمم المتحدة. يقول عادل الباز رئيس تحرير صحيفة «الصحافة»: ان الإذاعات أخطر وسيلة إعلام في الدول المتخلفة، حيث ليس هناك من مجال للرأي الآخر، ولذا من السهل أن تزرع أفكارا ليست في صالح التوحد. لقد صرح مديرها أنها ستكون منبرا لكل الآراء بدعوى الحرية، وهذا ما يثير الريبة، ولا بد أن بعثة الأمم المتحدة في السودان قد شاهدت فيلم «رواندا هوتيل» الذى أنتجته الأمم المتحدة عن مجازر رواندا، وتعلم ماذا فعلت الإذاعات فى رواندا، والقدر الذي ساهمت به في الإبادة التي جرت هناك، ويضيف متسائلا «ماذا سيحدث إذا فتحت هذه الإذاعات أبوابها لتصبح مسرحا للصراع السياسي، أو قررت أن تصبح ميدانا لتصفية حسابات المعارضة مع الحكومة أو لتصفية حسابات الأحزاب مع بعضها البعض؟!». ويختم الباز حديثه، ساخرا بمرارة «جيش وشرطة وعلم وممثل وتفويض بلا حدود و34 إذاعة، ننتظر فقط النشيد الأممي، ومرحبا دولة الأمم المتحدة في السودان».

إذاعات الدولة

السلطات مشغولة بمنح التراخيص للإذاعات الخاصة FM، المملوكة لشركات المشروبات الغازية ببرامجها الضحلة لتملأ الأثير وتتكاثر كل يوم، وإذا علمنا أنه في كل الولايات السودانية توجد إذاعات محلية ولكن يقتصر بثها لساعات محدودة ولا تخاطب كل اللغات، وإذا علمنا أيضاً أن هناك إذاعات حكومية هامة توقفت عن البث بعد فترات قصيرة بدعوى نقص التمويل، وهو بالتأكيد قصور إعلامي جعل منظمة الأمم المتحدة «تقتنص» معالجته بطريقتها الخاصة، حينها لا يكون رد الفعل الرسمي إلا الإذعان، ويقفز الى الذهن المثل الذي تردده ربات البيوت في المسلسلات العربية «إمش عدل يحتار عدوك فيك».

قمنا بزيارة لمركز الإذاعات في مقر بعثة الأمم المتحدة بجاردن سيتي، في الخرطوم، قبل أن تنتقل الى مقرها الجديد. التحفظات كبيرة من العاملين بها، ممنوع التصوير أو الإدلاء بأي معلومات. العاملون الذين تم إختيارهم ومعظمهم شباب من الجنوب، يتدربون بحماس للعمل الإذاعي، ويشعرون بأنه دعم لعملية السلام. لم تتم تسمية أو وضع شعار للإذاعات بعد، ولم يصرح لنا متى يبدأ البث، وهو خبر بمليون دولار، لا يمكن التفريط فيه، كما تجيب نائبة مدير الإذاعة التنزانية.

حين يبدأ البث الفعلي، يمكننا أن نعرف ونحكم، هل فعلا سيكون دورها توعية الجماهير وتنويرهم فقط، وهل ستعلم الناس كيف يتم نزع الألغام أم زرعها؟!