«السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم أول مسرحية عربية على «المسرح الملكي السويدي»

معضلة الديمقراطية تختزلها حكاية شرقية

TT

منذ تأسيسه على يد الملك غوستاف الثالث، في القرن الثامن عشر، لم يشهد المسرح الملكي السويدي، على خشبته أي عمل لمؤلف عربي، أو حتى شرق اوسطي، على الاطلاق. وفي التاسع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2005، شهد محبو المسرح، على هذه الخشبة العريقة، «السلطان الحائر» للكاتب الراحل توفيق الحكيم. هذه المسرحية التي تعالج مسألة في غاية الحساسية، ألا وهي الحد الفاصل بين السلطة والقانون، وما هي المسافة بين استخدام السيف والاحتكام إلى ميزان العدل، وكلاهما عنوان لسلطة.

عرض الافتتاح حضره طاقم من اعضاء الحكومة السويدية، بمن فيهم وزيرة الخارجية ليلى فريفالدتس، والثقافة ليف باغروتسكي، ونخبة من اعلام الثقافة والادب، للاطلاع على فن الدراما العربية. وذلك لما يعتبرونه حدثا استثنائيا في تارخ المسرح السويدي العريق، قد يكون فاتحة لفهم أوسع لآداب شعوب أخرى، انضوت أعمال مبدعيها تحت ظلال قاتمة من الأفكار الجاهزة المعممة.

المسرحية من إخراج ايفا بريمان، ابنة الدرامي العالمي انغمار بريمان، وأداء نخبة من المسرحيين السويديين المعروفين. لكن دور السلطان يمثله الشاب فارس فارس، وهو لبناني الاصل، اقتحم وأخوه المخرج يوسف فارس المسرح ومن ثم السينما، فسجلا حضورا متميزا فيها من خلال ثلاثة أفلام، آخرها فيلم هذا العام بعنوان «زوزو»، وقد رشحته السويد للاوسكار. وإلى جانب فارس فارس، تمثل الفنانة ميلندا كينمان، وعدد من الممثلين المرموقين الآخرين. ربما كانت مغامرة بالنسبة للمخرجة ايفا بريمان، ان تعرض مسرحية عربية على خشبة المسرح الملكي السويدي، الذي شهد أعمالا عالمية ضخمة لدراميين غربيين حصراً، لكن وكما تقول، هذا لا بد ان يحصل، فلا بد ان يقدم أحد ما على هدم الجدار الذي يفصل بين الثقافات. ولكي تكون متأكدة في سعيها، بدأت ايفا بجس نبض الجمهور بإخراج مسرحية لشكسبير، باللغة العربية وبأداء ممثلين عرب، حيث عرضت «حلم ليلة صيف» أولا على مسرح في الاسكندرية بمصر، ومن ثم في المسرح الملكي السويدي، وكان الإقبال على العرض السويدي حينها كافيا لتشجيعها على الخطوة اللاحقة، بجلب مسرحية من تأليف كاتب عربي. ولكون حكايات «ألف ليلة وليلة»، هي الأقرب لمعرفة الشرق بالنسبة للأوروبي، اختارت المخرجة «السلطان الحائر»، العمل الدرامي الأقرب الى الحكاية، حيث ثمة راو يأتي محلقا فوق الجمهور ببساط طائر ليحط على خشبة المسرح، ويبدأ بالسرد «كان ياما كان... »، هكذا تبدأ المسرحية على يد المخرجة بريمان.

رغم ان المسرحية كتبت في عام 1959، في زمن جمال عبد الناصر، إلا انها تتحدث عن فترة موغلة في الزمن، هي فترة حكم المماليك، لكن موضوعها عصري وقائم في كل الأزمنة. فحينما يصبح الحكم في يد شخص فهو يحمل السيف بيمينه والقانون في يساره، والسؤال أيهما سيمنح الاولوية؟.

فالسلطان الشاب الذي تنتقل اليه السلطة بعد وفاة السلطان الكبير، حيث كان ساعده الأيمن، يكتشف، وعن طريق الصدفة، انه ليس حرا، بل مملوكا للسلطان الذي أتاه الأجل. ويتلهى السلطان الشاب بأمور إدارة الدولة حتى تجيء تلك اللحظة حين يحكم القاضي على شخص من عامة الناس بالإعدام لأنه أذاع بين الناس بأن السلطان عبد لم يعتق، وتتبدل الصورة، بعد أن يستغيث الشخص به طالبا منه الحكم بالعدل، وحين يأذن السلطان بذلك تنجلي الحالة وتتأكد الشائعة، من ان هذا الرجل الذي قهر جيوش الاعداء وساهم في ترسيخ السلطة، ما زال عبدا. وهنا تأتي المفارقة، فيضحى السلطان متأرجحا بين نقيضين، تنهشه الأسئلة: هل يستخدم السيف ليحل هذه الاشكالية بقوة سلطته؟ أم يكون مثالاً للحاكم العادل؟ وهو الحل الذي يختاره.

في هذه المسرحية، التي قدمت بمستوى عال، نجد ان القاضي الذي يفترض به ان يدافع عن القانون يحاول التلاعب عليه من خلال قوله للسلطان بأن الخيار متروك له إن أراد أن يستخدم سيفه ليحل المشكلة، ام انه يلتزم بالقانون؟ هذا اولا، وثانيا، وعند إصرار السلطان على التمسك بموقف الالتزام بالقانون، يلجأ القاضي الى الحيلة بوضع شرط على مشتري السلطان الذي سيعرض في مزاد علني، ان يعتقه فور الانتهاء من عملية البيع. ولكن من يشتري السلطان؟ بعد رواح ومجيء، يرسي المزاد على غانية سيئة السمعة تطلب تأخير عتق السلطان حتى آذان الفجر لتتسلى به تلك الليلة، حيث أصبحت مالكته. وهنا تبدأ مفارقة جديدة حيث وبينما يحاول القاضي إجبارها على توقيع عقد عتق الملك فور توقيع عقد البيع، يتعاطف الملك مع مطلبها. ولكن إصرار الغانية على موقفها وتعاطف السلطان معها يبطلان حيلة القاضي. ومن خلال الساعات القليلة التي يمكثها السلطان مع الغانية، يتعرف المشاهد على دواخل السلطان ونزاعات أحاسيسه، وعلى نبل الغانية وطيبتها، رغم ظاهرها الذي يوحي بسوقية.

لقاء السلطان مع الغانية، حمل الكثير من اللحظات الحرجة والمضطربة في بادئ الامر، لكن ساده جو لا يخلو من الرومانسية التي عزز وجودها إيقاع الموسيقى الشرقية النابضة بالإيحاءات التي تناغم معها الجمهور. لكن هذا اللقاء غيّر الكثير من مفاهيم السلطان السابقة عن رعيته، وما يحمله الناس من حكايات وأفكار، فيفصح لها عما راوده، وهو حائر بين السيف والميزان، ليقول لها: «يجب أن تعلمي بأن استخدام السيف هو الطريق الأسهل على الدوام».