في مهرجان دمشق اختلطت الأفلام بسيناريوهات المتفرجين

«تحيا السينما» لكن الواقع تجاوزها بأشواط

TT

حين يصبح الواقع اقرب إلى الخيال، ويذهب الناس لمشاهدة الأفلام بينما لا تستطيع ان تستولي عليهم سوى هواجسهم الخاصة، حينها يصير الخلط سهلاً بين ما يطل من الشاشة، وما يمكن أن تتفتق عنه مفاجآت الحياة. في مهرجان دمشق السينمائي لهذا العام، اختلطت مشاهد الأفلام بسيناريوهات المتفرجين.

ظاهرة يصعب تجاهلها شهدتها دمشق، خلال مهرجانها السينمائي الرابع عشر الذي رفع شعار «تحيا السينما» لهذه الدورة، التي انتهت الأحد الماضي، وضمت 500 فيلم، عرضت على هامش المهرجان أو في المسابقة الرسمية، مما خلق حالة من صخب الأصدقاء عند اجتماعهم. صخب كان في السابق محصورا بالسينما والآراء المتبادلة حول فيلم ما، أو مشهد مؤثر، إلا أنهم اليوم يتبادلون الرأي بل ويحتدون إن اختلفوا، حول صور ومشاهد مأخوذة من الواقع، وليس من السينما.

بالتالي في كل حوار كان يتم في المقهى أو صالات العرض السينمائي، يُحكى سيناريو لما يحدث وما سيكون ـ لا داخل المهرجان وإنما خارجه ـ كلٌ حسب وجهة نظره وتحليلاته الخاصة، مما يجعلنا أمام عدة أفلام تروى على ألسن الحاضرين، تعكس صورة الواقع، إما بشكل رديء وسطحي، أو بطريقة أكثر عمقا وأمانة. إذاً كانت من ناحية افلام المهرجان، ومن ناحية أخرى افلام الناس الذين جاءوا يحملون سيناريوهاتهم ومخاوفهم. كل هذا جعلنا أمام تساؤل طريف: «لو كانت الحياة سينما، هل استطاعت أميركا محاصرتها؟».

يرى الناقد السينمائي المغربي مصطفى المسناوي أن أميركا تحاصرنا في السينما أيضا، فالنسبة الأكبر من الأفلام المعروضة في المهرجانات أميركية، في حين لا يصل صوتنا المختلف إلى البعيد. «لو كانت الحياة سينما؟»، يعيد المسناوي طرح السؤال على نفسه، ويجيب «في السينما نريد دائما انتصار الخير على الشر، بخلاف الواقع الذي هو أكثر تعقيدا، حيث يعيش الخيّرون ومعهم «الجمهور» على أمل الانتصار. الفيلم بصفة عامة أبسط من الواقع، لكنه يعتمد بشكل أساسي على المخرج والطاقم أو الاوركسترا التي تنجز الفيلم، فالأمر يتوقف على مهارة العازفين كل على حدة، بناءً على ذلك نكون أمام فيلم جيد أو متوسط أو رديء، وإن كنا أمام فيلم رديء سنفضل الواقع، حيث يوجد الأمل. في الفيلم تبنى المصائر وتوجه، يموت الأبطال، لكن بعد كلمة النهاية تستمر الحياة ويستمر الأمل. وإشفاقاً من أن تتحول الحياة إلى فيلم رديء نفضل أن تبقى كما هي، مجرد حياة».

كاتب السيناريو المصري مصطفى محرم، يوافق على استمرارية الأمل، بعد انتهاء العرض، لكنه يجد ان بعض الأفلام لها تأثيرات مفتوحة. إلا أن السينما العربية من وجهة نظره لا تملك إمكانات تعبير عن الواقع الحالي، فهي مكبلة وتسير في ركاب الإعلام العربي الذي يخضع لسياسة معينة. ويضيف «لو استطاعت سينماتنا رصد الواقع، سيكون هذا هو الرد الحقيقي الذي في إمكانه أن يصل إلى أنحاء العالم، لكن أصواتنا لا تبلغ إلا فئة محدودة. ولو كانت الحياة سينما كنا استطعنا بأحلأمنا تجاوز كل الحصارات».

إلا أن هذه الأحلام من وجهة نظر المخرج السينمائي السوري محمد ملص تتعرض لعراقيل جعلته يعتبر نفسه واحدا من السينمائيين الذين دفعوا حياتهم ثمنا لهذا الوضع السيئ الذي لم يتغير من ثلاثين عاماً. ويقول «مهما كانت القوة الخارجية كبيرة ومهيمنة فإن الدفاع عن البلد دائما هو الطريق الوحيد. أن تكون في هذا المجتمع حيوية وحياة مدنية حقيقية، وأن تكون حرية التعبير السياسي أو الثقافي مفتوحة للجميع. وأعتقد أن هذا الأمر لا يتوفر في الحياة المدنية والثقافية في سوريا اليوم. وربما تشكل السينما واحداً من المعايير التي يمكن من خلالها تدقيق صحة ما ذكرت. في سوريا تتوافر الإمكانات، لكنها تغيب مقابل هيمنة القطاع العام على الإنتاج وانكفائه إلى تحقيق فيلم واحد في السنة أو ثلاثة في عامين. لذا حاولت في فيلم «باب المقام» الذي نال أخيرا جائزة لجنة التحكيم في مهرجان مراكش أن أقول إن التعبير سيكون ضحية العقل الرجعي المتطرف الذي ينمو في المجتمع بشكل كبير، في وقت تتلهى فيه السلطة بقمع التيارات الديمقراطية، بالتالي هو صورة هذا الواقع، و لذلك لا يُرى الفيلم في مهرجان دمشق السينمائي».

هذا التصريح أثار استغراب الناقد محمد الأحمد مدير المؤسسة العامة للسينما، ومهرجان دمشق السينمائي، وتساءل «من الذي يمنع الفيلم، إن لم يقدم إلى الرقابة حتى الآن؟ إضافة إلى أنه سمح بالسيناريو منذ كان اسمه «شغف» ثم «شمس الأصيل»، و«باب المقام» فيما بعد، وأقر من قبل لجنة قراءة النصوص، وسمح بتصويره مستعينا بالمعدات والفنيين من المؤسسة».

وبالعودة إلى تساؤلنا الأساسي يجيب محمد الأحمد «لا أعترف بشيء اسمه حصار لسبب بسيط، هناك أشياء لا يمكن منع تسللها، وهي مرتبطة بالفن والثقافة وعمق الحضارة. سوريا تتعرض لضغط إعلامي وسياسي ظالم، لكن من خلال تجربتي كمدير مهرجان، أكرر ما قلته في الافتتاح هذه أهم دورة قمت بالإعداد لها، رغم كل الصعوبات التي يحكي عنها. كثيرون استغربوا حيوية مزاجي في تسوية المسائل قبل الافتتاح، ربما لإدراكي أن الواقع يحتاج إلى تعامل بنوعية مزاج مماثلة لما توافر لي. أعظم الحركات الأدبية والتيارات السينمائية تحققت في ظروف أقسى مما نمر به اليوم، والسينما التي تبقى، هي تلك التي تنقل الواقع بأمانة. فالأزمة لم تكن في الأفكار، بل في عدم نقل صورة صادقة، لأن افلأمنا إما أنها تتملق لكسب جوائز في المهرجانات الأوروبية، أو أنها لم تكن عند حسن الظن في رصد مسألة حياتية ملحة، وهذا يؤكد ما قاله روبير بريسون أن الفيلم العظيم هو النبض الحقيقي للواقع».

وختم الممثل السوري جلال شموط النقاش بجملة بسيطة ومعبرة: «لو أن الحياة سينما، كانت انتهت الحكاية في ساعة ونصف».