من يرسم الحدود بين حقوق الفرد والسلامة العامة؟

المجتمعات الديكتاتورية والفاشستية استعملت مفهوم الخير العام لقمع المجتمع

TT

ما من مجتمع يزدهر بدون بعض الصيغ المشتركة للخير، ومن الضروري وضع معايير يعتمد عليها حين تتضارب المصالح والقيم

بين الأفراد أو المجموعات المختلفة التي تؤلف المجتمع، التي أحياناً تندفع في اتجاهات تتناقض فيها تطلعاتهم ومصالحهم،

معايير تزودنا بأسس منطقية لعدم تجاوز الحقوق الفردية والمجتمعية.. لكن ما هي هذه المعايير؟.

كي لا يتداخل مفهوم «الخير العام» مع التقسيم الثنائي الأمريكي للعالم إلى خير وشر، يقصد بالخير العام في كتابنا هذا المصلحة العامة، بالتعارض مع مصلحة الفرد ومجموعات المجتمع، كما أن مفهوم الخير العام يشمل الجميع، الأحياء منهم، والأجيال التي لم تر النور بعد. وبالطبع، ليس مفهوم الخير العام حديثاً، وإذا وضعناه في إطاره التاريخي نجده يختلف من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. فالمجتمعات الديكتاتورية والفاشستية استعملته لتطلب من مواطنيها وضع خياراتهم جانباً وإخضاع استقلاليتهم لضوابط وقيود قاسية من أجل خير الجميع، أي عليهم أن يجدوا سعادتهم من خلال القيام بأعمال تصب ضمن إطار تعزيز القضايا التي تتبناها الدولة. بينما في المجتمع الأمريكي انتشرت في الستينات من القرن الماضي مفاهيم التعبير عن الفردية، مما شجع الناس على عدم احترام واجباتهم المجتمعية من أجل أنفسهم، بغية تنمية شخصيتهم من خلال الالتفات إلى رغباتهم الدفينة. وفي الثمانينات، عهد ريجان وتاتشر، اعتبر الاهتمام بالنفس فضيلة، فأضافت الفردية ذرائعية مهينة إلى المجتمع، وامتدت إلى الحق بالمشاكسة باسم ما يفترض بأنه حق للمرء، بعدم الاكتراث بالآخرين، حتى بات من اللازم كبح الفردية الزائدة. ابتداء من التسعينات، برزت مجموعة من المجتمعيين الجدد (روبير بيلاه، ويليام غالستون، ماري آن غليندون، وآخرون) كان الطرح الأساسي لها، هو أن الحقوق الفردية القوية تفترض احتراماً واعترافاً بواجبات الخير العام. والتزام المجتمع بهذا المفهوم هو الطريقة المثلى للحد من تدخل الحكومة، في حين اضعافه يعززه ويوسع دائرته.

ينطلق المؤلف في كتابه من فرضية أن لدى القارئ تعاطفاً مبدئياً مع مفهوم الخير العام، مما يدفعه ليعني بمجال ونطاق هذا المفهوم بالسؤال: تجاه من لدينا التزامات أخلاقية؟، هناك اتجاه إنساني قوي يعتبر أن لدينا التزامات تجاه مجتمعنا، سواء كمن نعني به العائلة، القرية، الأمة، كما أن العدالة تجبرنا على التعامل مع جميع البشر على حد سواء. ومن ثم التساؤل، هل التذرع بالخصوصية مبرر في وجه المطالب المجتمعية؟، لا شك في أن الخصوصية مطلب شرعي لمنع الآخرين من النظر إلينا والتسمع علينا، وتعتبر حقاً اكثر مما تعتبر واجباً، ولدينا الحق، كذلك في التخلي عن الخصوصية إذا أردنا ذلك، كما علينا احترام الخصوصية التي يريدها الآخرون لأنفسهم، لكن ليس علينا واجب الاحتفاظ بالخصوصية لأنفسنا وللذين لا يريدونها. خلال العقود الأخيرة، تراجع مفهوم الخصوصية في الغرب كواجب اجتماعي وقانوني، وبات دور المجتمعات في تدعيم الالتزامات الأخلاقية يساعد على تعزيز النظام الاجتماعي الاختياري، وهناك اتجاه يفترض، أنه حين يصار إلى تربية الأطفال بشكل جيد من قبل عائلات قوية ومدارس جيدة، ودعم هذه التربية من قبل دور العبادة، فإنهم سيصبحون رجالاً ونساء فاضلين. وما لم يتم تدعيمها بشكل مستمر بتوطيد التزامها بالمعايير الاجتماعية، فإنها سوف تتدهور. وبالإمكان تقليص دور الشرطة والمحاكم والأساليب الإكراهية للدولة حينما تصادق مجموعات المجتمع على قيم أخلاقية مشتركة.

أحد الأهداف الرئيسة للخير العام هو رفاهة الأطفال، مما جعل مناصري مبدأ الحرية يخشون أن يضع مفهوم الخير العام حدوداً على حرية تعبير القاصرين، مما أثار بعض التساؤلات مثلاً: هل تتعارض حرية التعبير مع حماية الأطفال؟ هل أصبح تدخل الحكومة ضرورياً؟ هل من المقبول أن يتعرض الأولاد في دور الحضانة للمواد العنيفة والسيئة التي تغرق الانترنت وجميع وسائل الإعلام والألعاب الإلكترونية؟!، المستغرب أنه في أوروبا ليس هناك أي قوانين تحكم هذا الأمر، بينما في أمريكا تعطى الأهمية لموضوع الكتابات والصور الداعرة، ولا تولى أية أهمية لصور العنف. وبالتالي هل يمكن الاعتماد على المعلمين لحماية الأطفال من المواد الثقافية المؤذية؟، لا يمكن اعتناق الموقف الداعي إلى منح الأطفال كامل حقوق الحرية في التعبير، ويجب على القوانين أن تأخذ بعين الاعتبار واقع أن قدراتهم لا تزال في طور النمو، ولا يملك الأهل والمربون والمجتمع، الحق فقط إنما الواجب أيضاً لتشكيل محيط ثقافي يكبرون فيه. أما التعرض غير المقيد للمواد الثقافية المؤذية كتصوير العنف، فتقوض أسس نموهم السليم. وريثما يكبر الأطفال وتتعزز قدراتهم، يمنحون حقوقاً أوسع نطاقاً للتعبير، وإذا تبين أن حمايتهم تقتضي فرض بعض القيود على الراشدين، فإن هذه الإجراءات تُعد مبررة عندما يكون الأذى جوهرياً وموثقاً.

الخير العام يعنى أيضاً بالسلامة العامة، من ناحية أين يجب رسم الخط الفاصل بينها وبين حقوق الفرد؟ وكيفية إعادة رسم الخط الفاصل بين السلامة والحرية؟، بالنسبة للشعب الأمريكي، فإن الإجابة قد اهتزت بشكل لافت بعد أحداث 11 سبتمبر. فإذا أخذنا بالاعتبار أن من الواجب حماية الحقوق الفردية والسلامة العامة، فغالباً نجد أنه عندما يتقدم أحدهما يعني تقلص الآخر، أي يتقدم أحدهما على حساب الآخر. والسؤال هو: أين يقع التوازن الجيد بين هاتين القيمتين الأساسيتين؟. تاريخياً، لا تعتبر المعايير منطقية إلا إذا كانت تخدم المصلحة العامة، لا سيما السلامة العامة والصحة العامة، لكن السلطات الممنوحة إلى الحكومة تضعف التوازن بين الحقوق وبين السلامة، مما يتطلب معرفة حول ما إذا كان أولئك الذين يستخدمون السلطة يحاسبون بما فيه الكفاية من قبل المراقبين والمشرفين، لا سيما المواطنين، أي في ما إذا كانت هناك محاسبة كافية، وإذا وجدت غير كافية أو صارمة أكثر من المطلوب، ففي السلطة المقدرة على تصويبها. تستدعي الاقتراحات السابقة التمييز بين المجتمع والدولة، إذ هناك ميل إلى اختصار المجتمع بالدولة. وحسب الكثيرين، الدولة هي وحدة محددة تشمل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. أما المجتمع فلا معالم واضحة له، بلا عنوان أو جدول تنظيمي، وكأنه شيء خيالي. غير أننا إذا اعتبرنا أنه يتألف من عائلات ومجتمعات وروابط محلة وهوية وقيم مشتركة على مستوى الوطن، ندرك عندها أهمية المجتمع بشكل عام، خصوصاً في الصياغة والتأسيس غير الرسمي للخير. وعلى الرغم من الجسور المقامة بين المجتمع وسلطة الدولة، جسور تنقل المواد من المجتمع إلى الدولة (كنتائج الانتخابات) ومن الدولة إلى المجتمع (قوانين تشريعات) يبقى المجتمع هو الأساس لكل المحادثات الأخلاقية التي منها تنبثق الصيغ المشتركة للخير، والمكان الذي منه تنطلق الحكومات للمطالبة بشرعيتها فيتم الاعتراف بها أو رفضها. وعلى مدى عصور عديدة، ثمة ملايين من الأشخاص حول العالم قد جمعوا بين رفاهتهم والخير العام وبين رفاهة الأمة. وفي واقع الأمر، تثير الأمم مشاعر الولاء القوية التي تخدع الكثيرين إن لم يكن الجميع. ويميل المرء إلى نسيان أن الدولة/ الأمة هي بناء اجتماعي حديث العهد، وانه ليس فطرياً ولا إلهياً، وبقدر ما نفصل بين المجتمع والدولة يعم السلام العالم، أي من المهم جداً تفادي الخلط بين العالمين السياسي والاجتماعي، وبالرغم من أن تشكيل وإعادة تشكيل علاقات السلطة والنفوذ هي في صميم العالم السياسي، فإن غالبية قراراتها تنطوي على بُعد أخلاقي، وهكذا تبرز الأهمية القصوى للحوارات الأخلاقية التي تساعد على اتخاذ القرارات والقوانين الداعمة، ليس بالتصويت بالأكثرية، بل وهو الأهم من قبل المفاهيم الأخلاقية المشتركة، المبنية على حوارات أخلاقية ناضجة.