السلطة الأخلاقية الأميركية في خطر

باحثان أميركيان يدعوان إلى تغيير الأسئلة التي يطرحها الأميركيون على أنفسهم

TT

وضع المؤلفان البروفسور هالبر مدير برنامج «دونر» للدراسات الدولية في جامعة كامبرج، والبروفسور كلارك الباحث في السياسة الخارجية في معهد كانو بواشنطن العاصمة، هذا الكتاب انطلاقاً من مقدمات مختلفة عمّا سبق أن أخرجته المطابع من أبحاث ودراسات ومنشورات، وهو كثير جداً، منذ اختار الرئيس بوش تبني السياسة الخارجية للمحافظين الجدد التي تشدد على المواجهة العسكرية وبناء الأمم تحت شعار محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية

ترتكز هذه المقدمات على تحليل أسباب انتصار الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي، وعلى دراسة الأدوات العملية التي مكّنت من تحقيق ذلك الانتصار، فيرى الكتاب أن المكونات الأساسية لم تكن في توافر القوة العسكرية الأميركية والأداء المتفوق للنموذج الأميركي القائم على اقتصاد السوق فحسب، بل الدرس البليغ بأن السلاح الأميركي الأمضى هو السلطة الأخلاقية الأميركية التي نصّبت أميركا قوة الخير في العالم، وكانت هذه القوة العامل الحاسم كي يتحقق الانتصار ويدوم طويلاً.

لقد بلغت القوة العسكرية الأميركية شأواً لم تبلغه أمبراطورية من قبل، كما لا يزال الاقتصاد الأميركي يحتل مركز الصدارة في العالم، في حين أن السلطة الأخلاقية في خطر وذلك بسبب السياسات المعتمدة بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) القائمة على سلسلة من المقدمات الخاطئة التي ترى أن النصر لا يتحقق إلاّ بالقوة العسكرية وحدها. وقد يكون ذلك صحيحاً عندما يقاتل بربري بربرياً آخر، لكنه خطأ جسيم عندما تأمل الحضارة بأن تخرج منتصرة. وإلا كيف تحقق الانتصار على الاتحاد السوفياتي دون أي طلعة هجومية من حلف الناتو؟

لا يسعى هذا الكتاب لتقديم عمل تنظيري أكاديمي، ولا يطمح لأن يكون رداً على واشنطن من الداخل، على الرغم من مشروعية ذلك وضرورته، بل يهدف إلى تغيير الأسئلة التي يطرحها الأميركيون على أنفسهم. فالنجاحات العسكرية المثيرة التي سجلتها وسائل الإعلام العالمية تتمحور حول القوة، لكنها تقود إلى المشاكل المعقدة لبناء الأمم، وذلك على خلفية انهيار السلطة الأخلاقية، لذا لم ينظر إلى القوات الأميركية على أنها جاءت لتحرير تلك الشعوب، بل واجهت العداء والخطر عندما رفعت العلم الأميركي. فإذا كانت الغاية نشر الديمقراطية، وهي الغاية المعلنة، فقد فشلت أميركا في تحقيق هدفها وخلقت بؤراً إرهابية جديدة تتزايد بشكل خطر. لذلك نجد أن على سياسة المحافظين الجدد أن تربط الوسائل بالأهداف التي يمكن تحقيقها، وأن تستبدل سياستها وتخضعها إلى جراحة جذرية لتحل محلها أهداف مثمرة وقابلة للتحقيق.

لا تتحقق هذه الأهداف إلاّ بالعودة إلى الجذور المعتدلة للسياسة الأميركية بعد المنعطف الخطر الذي قاده المحافظون الجدد، واعتماد فضائل السياسة المدفوعة بالمصالح والساعية إلى الإجماع والمدركة للمخاطر التي تنتهجها الولايات المتحدة بنجاح منذ الحرب العالمية الثانية، سياسات تشكل فيها التحالفات الدولية مزايا حيوية تتيح للولايات المتحدة منابر إضافية وتهيئ لها الظروف لدفع مصالحها قدماً.

لقد أقنع المحافظون الجدد أنفسهم بأن حالة أميركا الطبيعية، هي الحرب، حرب بلا أبعاد، الأعداء فيها مخادعون يمكن أن يكونوا مقيمين في أي مكان من العالم، وكما يمكن أن يكونوا داخل نيويورك أو كاليفورنيا. حرب لا يوجد تعريف للنصر فيها، وبالتالي لا توجد نهاية منظورة لها. لذلك تواجه تناقضاً واضحاً بين السبب المعلن والنتيجة الحاصلة، فعلى الرغم من الاستخدام الكثيف للقوة العسكرية في الخارج، وتخصيص موارد هائلة للأمن الداخلي، لا يشعر الأميركيون بذرة إضافية من الأمان، لا بل تظهر استطلاعات الرأي أن الأميركيين يشعرون بأنهم مهددون شخصياً أكثر من أي وقت مضى من تاريخهم. والواقع أن ما أطلق عليه «الرد على الإرهاب»، إذا ما وضعنا الضربة الموجهة ضد طالبان جانباً، لا علاقة له بمكافحة الإرهاب بل إنه يجعل التهديد الإرهابي أكثر سوءاً. وما جرى هو تطييف إيديولوجية تشدد على الصراع التقليدي بين دولة وأخرى لتصبح خيار سياسة شاملة خاصة بحقبة تهديداتها، غير تقليدية وتتجاوز حدود الأمم وغير محصورة بالدول. فليس مستغرباً في هذه الحال ألا يشعر أحد بمزيد من الأمن.

هذه الإيديولوجية تضع الولايات المتحدة حُكْماً في حالة حرب، لأنها تنظر إلى الديبلوماسية بمثابة قيد متعب للأحادية القطبية الأميركية، فيصبح الحل العسكري واستخدام السلاح الأداة الوحيدة التي تلجأ إليها في مجموعة واسعة من التحديات السياسية. ولا يشعر المحافظون الجدد بحرج أو بقلق من أن تصبح الولايات المتحدة في حالة توتر دائم مع العالم الخارجي، وتميل إلى عدم التسامح في ما تسميه محاربة الشر بكل الوسائل المتاحة، لتصبح كل الوسائل مباحة، ولا يعد بالإمكان تمييز الخير عن الشر الذي دعوا إلى تدميره، بل إن دعاة الإيديولوجية المحافظة يتحدثون عن الحرب العالمية الرابعة، وعن الحرب الدائمة، ويشككون بوطنية من يجرؤ على طرح الأسئلة. إن أميركا تخاطر إذا ما اعتمدت مقولة نائب وزير الدفاع بول وولفوتز: إننا سنبقى أمة بحالة حرب. بأن تصبح شبيهة بالتنانين التي تقاتلها، لأن من يقاتل فترة طويلة ضد التنين يصبح هو نفسه تنيناً، وإذا ما حدقت كثيراً بالهاوية، فستحدق بك الهاوية، كما يقول نيتشه.

لم تنعكس مفاعيل الحرب على العالم فحسب، بل على المواطن الأميركي أيضاً. فالأمن يعني القيود بصورة حتمية، ومن غير المرغوب فيه أن تحتل الحرية المدنية موقعاً مؤاتياً في زمن الحرب كما في زمن السلم. فهناك اتجاه سلبي لتشديد السيطرة المركزية على القيم الأميركية، فازداد نشاط وزارة الأمن الداخلي واقتربت من سلطات وزارات الأمن التي أثارت الرعب ذات يوم في أوروبا الشرقية. وأعطيت وزارة العدل صلاحيات وسلطات جديدة للتدخل والمراقبة غير مسبوقة في زمن السلم. وطوّرت مكاتب في البنتاغون تكنولوجيا تتسقّط المعلومات عن حياة الأميركيين اليومية. والمظهر اليومي أصبح مختلفاً فالشوارع تضم قوات بلباسها العسكري تحرس الأماكن العامة ويدها على الزناد، وحواجز خرسانية حول المباني الحكومية، وتغييرات جذرية في السفر الجوي، ولافتات تومض على الطرقات السريعة تحث السائقين على الابلاغ عن أي سلوك مريب، وتذكرات يومية على شاشات التلفاز تشير إلى مستوى التهديد الإرهابي اليومي المعبَّر عنه بالألوان والذي يخضع للتغير وفق آراء خبراء غير معروفين، مما يثير أسئلة وهواجس مرعبة عن الموقع الذي تضع أميركا فيه نفسها.

إضافة لما يدفعه المجتمع الأميركي في يومياته، فهو يدفع أثماناً غالية في علاقاته بالعالم الأوسع نتيجة هذه السياسة، كما من الناحية الاقتصادية. فالميزانية الفيدرالية ترزح تحت عجز متفاقم، وحكومات الولايات تترنح من الفجوات التي لا يمكن ردمها بين الإيرادات والمصاريف، ويرجع قسم كبير من هذا العجز للمتطلبات الأمنية، كما للصعوبات في تسويق البضائع الأميركية لأن الاتفاقات التجارية مع الشركاء الأجانب تتوقف على قضايا لا علاقة لها بالتجارة.

إن ضحية الحرب على الإرهاب، الأشد خطراً، بطبيعة الحال، السلطة الأخلاقية الأميركية. والمحافظون الجدد لا يعطون قيمة كبيرة لهذه القيم الأخلاقية التي لا تقدر بثمن، وبدلاً من ذلك يتعاملون مع القوة العسكرية الغاشمة باعتبارها أبجدية التفاعل الأميركي مع العالم. وذلك يذكرنا بسؤال ستالين التهكمي عن عدد الفرق العسكرية التي يستطيع البابا تحريكها في الميدان.

المحافظون الجدد يطرحون نموذجاً لمستقبل أميركا لا يمكن الدفاع عنه، وإذا كانت أميركا ملكت أرجحية في زمن السوفيات الذين لم يكن بوسعهم الدفاع عن الجرائم الجماعية التي ارتكبوها للمنافحة عن إيديولوجيتهم، فمن يملك هذه الأرجحية الآن، بالتأكيد ليس المحافظون الجدد الذي يتذكرون كل شيء عن تجارب أميركا من إعتداءات سبتمبر وفي أفغانستان والعراق، ويقتصون بعنف انتقامي من عالم أدان تلك الاعتداءات، لكنهم لم يتعلموا منها شيئاً. وخوفاً من أن تصبح الصفات البشعة التي تجتاح المجتمع الأميركي جزءاً من حالة أميركا الدائمة، وذلك بعد أن يغادر المحافظون الجدد أنفسهم المسرح بوقت طويل، كان هذا الكتاب من كاتبين يحبون أميركا.

* التفرد الأميركي

- ستيفان هالبر و جوناثان كلارك

* ترجمة: عمر الأيوبي

- دار الكتاب العربي ـ بيروت 2005