حملة ممنهجة يشنها المفكر ألان فينكلكروت لتشويه صورة العرب

«الفلاسفة الجدد» ونزعتهم المتطرفة تجابه بهز الرؤوس موافقة

TT

تصدرت صورة الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت الصفحة الأولى لجريدة «هآرتس» الإسرائيلية الأسبوع الماضي، ومعها تصريحاته التي يقول فيها بأن المسؤولين عن الأحداث التي عرفتها فرنسا هم «السود» و«العرب» و«الإسلام». وهو كلام لم يصدم الجالية العربية فقط، وإنما بدا نافرا لكثير من الفرنسيين الذين يفضلون رؤية الأحداث من زاويتها الاجتماعية. لكن فينكلكروت له تاريخ من التصريحات العنصرية والمعادية للعرب، مع بعض ممن يعرفون اليوم في فرنسا، باسم «الفلاسفة الجدد». فمن هم هؤلاء، وكيف يدير فينكلكروت دفة هجومه المتصاعد.

يتميز ألان فينكلكروت Alain Finkielkraut مع مجموعة من كتاب وفلاسفة فرنسيين آخرين، ممن أطلقوا على أنفسهم اسم «الفلاسفة الجدد»، بمواقف جد متطرفة من القضايا العربية والإسلام، ومن بين هؤلاء برنار هنري ليفي وألكسندر أدلير وغيرهم..

وليس من الغريب أن نجد واحدا منهم في منبر سياسي أو ثقافي يلعب دور الضحية حينا، ودور من يعطي الدروس حول حقوق الإنسان وتصدير الديمقراطية وإدانة الأنظمة التوتاليتارية، خصوصا العربية والإسلامية، حيناً آخر، من دون إشارة واحدة تذكّر بما تقوم به إسرائيل في فلسطين المحتلة.

وكم كان المنظر مثيرا للأسى، حين تصدى فينكلكروت، ذات مساء في برنامج تلفزيوني للفنانة الفرنسية الكبيرة «بينوش» (الفائزة بجائزة الأوسكار في فيلم المريض الإنجليزي) وأبكاها لأنها تجرأت على توقيع بيان عريض ـ تم توزيعه في تظاهرة كبرى للتضأمن مع الشعب الفلسطيني- يُطالب شارون بتطبيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، الحقوق التي اعترفت بها الأمم المتحدة. وقد مضى فينكلكروت في تهجمه، إلى حد اتهام بينوش بأنها أضافت اسمها إلى أسماء شخصيات كريهة.

صمت عربي حادّ

* وليست هذه أول مرة يتصدى فيها فينكلكروت أو غيره، من الذين أَطْلق عليهم المفكر الإسلامي السويسري الشاب طارق رمضان- في مقال شهير له في جريدة «لوموند» الفرنسية- تسمية «المثقفين الطائفيين الجُدُد»، لكُتّاب عَرَب أو مُسلمين، إذْ أنه في كل حضور له مع شخصيات فكرية وثقافية عربيّة، لا يتوانى عن توجيه الانتقادات إلى ما يسميه «الإرهاب العربي»، في ظل صمت حادّ من قبل الحضور العربي الخائف على مكانته في الإعلام الفرنسي الذي تسيطر عليه الاتجاهات اليهودية والصهيونية. وليس من مثال أكبر دلالة على ذلك، من مظهر المخرجة السينمائية يأمنة بنغيغي، وهي تهز رأسها موافقة على تهجمات فينكلكروت على العرب والمسلمين من دون أي رد فعل.

صحيح أن مُعدّي البَرَامج الفرنسيين، وهم في غالبيتهم منحازون للموقف الإسرائيلي، يصرون على عدم دعوة شخصيات عربية ومسلمة ذات وزن وموقف واضح، من طينة محمد أركون أو طارق رمضان وغيرهما، ويكتفون باستضافة شخصيات لا قيمة لها أو ديكورات سمّاهُم ـ ذات يوم الروائي المغربي الطاهر بن جلون-في مقال شهير له في جريدة لوموند ـ بـ«عرب الخدمة»، ليظلوا صامتين في الوقت الذي يقوم الصهاينة بتوزيع مواقفهم التي يحفظونها عن ظهر قلب.

يُعيد ألان فينكلكروت مواقفه في كل مرة يُتاح له القيام بذلك. وذهب به الأمرُ حد التصريح بأن المثقف العربي لا يمكن أن يكون ديموقراطيا إلا إذا تخلى نهائيا عن المطالبة بحق العودة للشعب الفلسطيني. هذا التوجه الجذري في رؤية الصراع، أو هذه النظرة الأنانية جعلته يُوقِّعُ على بيان، صاغته مجموعة من كتاب يمينيين فرنسيين وصهاينة، يُدينُ ما أسماه «العنصرية التي تَطَالُ البِيض»، وهو إشارة، في القسم الأكبر، إلى السّود وأبناء الجالية العربية في فرنسا.

تهجم على ياسمينة خضرة

* في الآونة الأخيرة، وفي برنامج culture et dépendance» صبّ فينكلكروت جامّ غضبه على الروائي الجزائري ياسمينة خضرة، الذي تلقى مدائح في البرنامج من قبل مقدم البرنامج الثقافي ومن قبل رئيس الوزراء الفرنسي السابق «روكار» على روايته «التفجير»، التي تتناول قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إشكالية العمليات الانتحارية. إلا أن كل هذا لم يمنع فينكلكروت من اتهام ياسمينة خضرة بالتدخل في شؤون لا تعنيه. وكأن ثمة مواضيع لا يجوز للمبدع أن يتطرق إليها، فقد قال محتدا، وقد فقد هدوءه: «لِمَ لا تؤلّف رواية عن التفجيرات في العراق أو الجزائر؟ لِم تأتي خصيصا إلى إسرائيل؟». المشكلة التي تطرَّقَ اليها الطاهر بن جلون، من خلال مصطلحه «عرب الخدمة» وجد مصداقيته في البرنامج، إذْ أن كاتبا جزائريا، باحثا عن الشهرة في فرنسا، ويدعى «صنصال«(صاحب رواية «حرّاقة») كان يهز رأسه موافقا فينكلكروت الرأي، بل بَالَغَ في جلد الذات بقوله: «إنه لا يعرف ما يقع في الجزائر، وإنه يائسٌ من وضعيتها، ويُدين الإرهاب».

المنتخب الوطني الفرنسي أضحوكة أوروبا

* ولا يتوانى فينكلكروت الذي لا يخفي ولاءه لإسرائيل، والذي لم ير في الانتفاضة من عنف شديد سوى عنف حجارة الفلسطينيين التي تتساقط على الجنود الإسرائيليين، عن معاودة تصريحاته ومَواقفه من دون حرج.

ففي حوار معه للصحيفة الإسرائيلية هآرتس(19 نوفمبر) فيما يخص الأحداث التي هزت الضواحي الفرنسية، لا يتورع فينكلكروت، من دون مداورة عن تحميل السود والعرب والإسلام المسؤولية. ويضيف بسخرية حادة قد تثير حنق الكثيرين بأن المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم، الحائز كأس العالم، والذي يُطلِق عليه هزءا «أسود-أسود-أسود» (إشارة إلى العديد من الفرنسيين من ذوي السحنات السوداء) ما هو إلا «أضحوكة أوروبا». وقد أثار هذا الحوار وما ورد فيه غضب مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» (التي يديرها صحافي يهودي هو دون دانييل) وكتبت بأن «ما تفوّه به فينكلكروت جديرٌ بزعيم من اليمين المتطرف، لا أن يخرج من فم زعيم سابق لليسار الفرنسي». وتقول صحيفة هآرتس بأن الكاتب الفرنسي أكد لها أنه «من المستحيل بل من الخطر التصريح بمثل هذه المواقف في فرنسا». وهو ما ينسجم مع ما كان شارون قد صرح به من عدم شعور اليهود بالأمان في فرنسا، واعتُبِرَ حينها تشجيعا صريحا وغير لَبق لحث اليهود على الهجرة من فرنسا.

قال فينكلكروت للصحيفة الإسرائيلية مفسراً ماهية أحداث الشغب الأخيرة، التي حدثت في فرنسا، على طريقته: «المشكل هو أن معظم هؤلاء الشبان همْ سود وعربٌ هويتهم إسلامية. ويوجد في فرنسا مُهاجرون آخرون في وضعية صعبة، صينيون وفيتناميون وبرتغاليون، لكنهم لا يشاركون في أعمال الشغب. إذنْ فمن الواضح بأن هذا التمرد ذو طابع إثني ـ ديني». ويضيف فينكلكروت مقارنا، بطريقته الماكرة، بين الشبيبة المهاجرة وشباب الانتفاضة الفلسطينية بالقول بأنه اكتشف «بأن هؤلاء، السود والعرب، يرسلون هم أيضا إلى الواجهة صغار السنّ. وأنتم في إسرائيل تعرفون الأمر. إنهم يُرسلون الصغار لأنه لا يمكن وضعهم في السجون حين يتم اعتقالهم».

فوائد الاستعمار

* الحديث تطرق لمواضيع عديدة، وكلها تكشف الحقد الدفين الذي يحسه الكاتب تجاه السود. فهو لا يتورع عن توجيه انتقاد شديد لبداية تدريس مآسي الاستعمار في أفريقيا. يقول: «ولكننا في فرنسا، وبدلا من محاربة معاداة السامية، نفعل تماما ما يريده أعداء السامية. إننا نقوم بتغيير مناهج تعليم التاريخ الاستعماري وتاريخ العبودية والرق في المدارس. إن تعليم التاريخ الاستعماري أصبح سلبيا بشكل حصري. لم نَعُد نُدَرِّسُ أن المشروع الاستعماري قدّمَ التربية والحضارة للمتوحشين».

إنها مواقف وتصريحات تفوق الوصف، ولا ندري ما سوف تكون عليه مواقفه في المستقبل، وإن كنا على يقين بأنه لن يتعرض للمحاكمة، على خلاف ما يتعرض كل من يعادي إسرائيل أو يتفوه برأي يخالف اللوبي المسيطر على الإعلام في الغرب. لا يبدو في الأفق أن ثمة وعيا ثقافيا عربيا حقيقيا بِمَخَاطر هذه الجماعة، ودورها في تشويه صورة العرب والمسلمين، من خلال استخدام مصطلحات براقة من قبيل الديمقراطية والتحرر والإصلاح وغيرها.

لقد ولى زمنٌ كان فيه فلاسفة كبار من طينة جيل دولوز يفضحون هؤلاء الذين أقحموا أنفسهم في ميدان الفكر، وهم لم يتخلصوا بعدُ من تناقضاتهم ومن توجهاتهم الطائفية. هؤلاء، الذين ولدوا، في غالبيتهم، من معطف جون بول سارتر، ومن مجلته «الأزمنة الجديدة»، ولكن الصمت الثقافي العربي هو وحده المسؤول عن فتوحاتهم.