عبد الإله الصالحي في «كلما لمستُ شيئا كسرتُهُ»

القصيدة المغربية الجديدة لا تنسخ ولا تقطع لكنها تتمرد

TT

ديوان الشاعر عبد الإله الصالحي تأخر في الصدور. لأن الشاعر المغربي المقيم في باريس منذ أكثر من عشر سنوات يكتب منذ فترة طويلة، وساهم في إصدار مجلة حداثية رفدت الثقافة المغربية الراكدة بالكثير من الأسئلة المخلخلة. نقصد مجلة «إسراف» التي كان لها الفضل في تشجيع الكتاب الشبّاب على التمرد. توقفت المجلة، لصعوبات مادية، لكن الشاعر لم يتوقف أبدا عن التفكير في موارد تأتي من مكان ما، لتصحيح القِصر.

هذه السنة غَالَبَ الشاعرُ عبد الإله الصالحي كسلَهُ، وأصدر الديوان الأول عن دار نشر «توبقال» المغربية. في مثل هذه الحالات، دائما ما يُطرَحُ سؤال الإضافة التي يمكن لشاعر أن يقدمها. والسؤال مشروعٌ ما دامت الحركة الشعرية المغربيّة تعرفُ حيوية لا يُستهانُ بها، والقصيدة المغربية تتمتع بأجواء من الحرية لا تحد منها إلا الرقابة الذاتية.

في ديوانه الأول يكشف عبد الإله الصالحي، عن انتمائه لجيل من الشعراء المغاربة الذين دفعوا بالقصيدة إلى مستوى من الذاتية لا نظير له، ونقصد بالخصوص الشاعر المغربي الرّاحل محمد خير الدين. يعلن عبد الإله الصالحي، عن هذه الذاتية، باعتبار القصيدة كتابة فردية بامتياز، بدءاً من العنوان الجميل «كلما لمستُ شيئا كسرتُهُ» (لقد ترك الناشرُ الماكرُ العنوان من دون تشكيل، ومن هنا تجوز قراءته أيضا كلما لمستِ شيئا كسرتِهِ)، وهنا يمكن أن نَعتبرَ الديوانَ رسالةَ حبٍّ طويلة إلى امرأة طائشة.

تأثير الشاعر محمد خير الدين ليس هو الوحيد في الديوان، إذ أن الصالحي يتمتع بإتقانه للغتين الفرنسية والإنجليزية (وهنا ينتظر قريبا صدور ديوانه باللغة الفرنسية، كما أنه شارك بقوة في مجلة التعامديين الفرنسية les perpendiculaires. يعلن الشاعر من البداية أن زمن الانتصارات الكبرى ولّى من دون رجعة. وليس من العيب أن يعلن الشعر، في قمةِ وفاءٍ لزمنه الشعري والحياتي السوسيولوجي، عن انكساراته بلغة جميلة منسابة.

يعرف الصالحي أن العَالَم أصبح قرية كونية. هذا الوعي الحاد جعله يمنحنا قصيدة لا تختلف كثيرا عن قصيدة أيّ شاعر آخر، غربيا كان أم عربيا. فما دام شاعرنا يعيش في بيئة كوسموبوليتية فليس من الغريب، أن يكتب نصّاً يمكن لأي شاعر فرنسي أو أميركي ـ لاتيني يعيش في الغرب، أن يعثر على أجزاء من حياته فيه. إن عبد الإله الصالحي بهذا يكتبنا نصَّنَا الشعري جميعا.

31 قصيدة تتوزع الديوان، تُقرَأُ بسهولة كبيرة، وكلّ واحدة منها تُعبّر عن حالة. اليومي يحضرُ بقوة، ولكن هذا اليومي لا يأتي بصفة مفضوحة، بل إن الشاعر يقدمه لنا على طَبَق باذخ وموغل في الانسيابية.

في قصيدة جميلة تحمل عنوان «شكرا جزيلا جيل دولوز» (أهداها إلى السوسيولوجي الجزائري قدّور زويلاي)، هي ربما من أجمل قصائد الديوان، يستحضر الشاعر الفيلسوف الفرنسي الراحل الكبير (ما أحْوَجَنَا إلى هذا المفكر في زمن ساركوزي وفيلكلكروت!) ليسائل الحياة اليومية والمعيش القاسي في أرض الغربة.

«كانوا يستشهدون بك / ويهمسون باسمك / كنبيٍّ قادم من بعيد / تصدح منه موسيقى لا يُشق لها غُبار. لم تكن فرنسيتي تسعفني حتى لشراء الخبز / لكن رنين اسمك / في المناقشات الجانبية كان له سحرٌ خاصّ / طالما أخجلني من فرط الجهل. الهجرة شيء مقدس، قلت ذات مرة. / لم يقلها أحد قبلك ولم يجرؤ على ترديدها أحد بعدك. في هذه البلاد التي تزوجناها عن حب / أنا ومحمد وعبد القادر وفاطمة / وعرب آخرون تضيق بأسمائهم المغبّرة هذه القصيدة. / حتى الآن لم أعثر على أحد يشرح لي طلاسم عبارتك المبهمة. / القوانين تقولُ العكس من حكومة لأخرى / والبوّاب فرنسي من أصل برتغالي / ويحتقر الفلاسفة. خجلتُ مرة من جهلي العميق بك / وكرهت نفسي بعربية فصيحة / رغم تأفف صاحب الجريدة الزنجي. / الهجرة حقّ مقدسٌ / عبارةٌ يكفي أنها قيلتْ ذات يوم. / لكي أستيقظ كل صباح / محتميا بك يا جيل دولوز».

أجواء القصيدة تمتح باليومي الذي يقبله الشاعر ويتحايَلُ عليه، إذ إن زمن قلب كل شيء وإحداث ثورة عارمة انتهى. يبقى فقط التطويع، وتبقى المُداراة.

في قصيدة «أمنية»، نقرأ: «أتمنى ألاّ تشبهني قصائدي أبدا / فأنا رجل عصبي لا صبر له / بطني متهدل / وأسناني الأمامية شديدة الصفرة / كما أنني نذلٌ / وتنقصني الكرامة».

أي واقعيّة أكثر من هذا. ورغم أن الوقائع مؤلمة، لم يتردد في التصريح بها. ولّى زمن التجميل والتنميق، وأصبح الشاعر لا يتحرج من وصف قدره.

وما دام الجمهور أو القطيع لا قدرة له على التدخل، فمن يستطيع أن يمنع الشاعر من التغني بأشجانه. من هنا تستطيع قصيدة النثر أن تلتقط تفاصيل الحياة وتعبر عنها، جنبا إلى جنب مع الرواية.

في قصيدة «أُبوّة»، وهي أقصرها جميعا، يكتب الشاعر عن ابنه الصغير، ما لن يستطيع الشاعر الكلاسيكي أن يقوله حتى وإن أحس به: «عندما وُلدتَ بكيتُ / خوفا عليكَ وعليّ / ويئستُ بحرقة. بلغتَ الآن ثمان سنوات / وكلما رأيتُكَ - مرة في الشّهر- / تجدد يأسي من الحياة». (25)

نص في غاية الشفافية والبوح. والاعتراف يذهب إلى أقصى مدى «تجدد يأسي من الحياة».

في نص «مجرّد عابر» يدفع الصالحي بالقصيدة إلى مواقع متقدمة في إدانة الأوضاع الاجتماعية، ويصرخُ: «في القطار السريع بين الرباط والدار البيضاء بكينا بحرقة / تبادلنا تهما خفيفة / وسمينا الإحباط مراكش. في الشوارع يتسيّد الزيف بِصيغ واثقة / ويلمع كلوحة إعلان مستوردة. / تمسك الأمهات بتلابيب بناتهن بحزم مبالغ فيه / ويتفنن الشحاذون في العويل. / رجال المخابرات يجربون معجما جديدا».

القصائد كلها، تضع اليد على الجرح، وتسائله. لا تتردد في الإعلان عن الخيبات، ولا تبالغ في الأمل، إذْ إن الأمل الكاذب يشي بالعمى. الصالحي (لم يصل بعد إلى الأربعين)، في هذا الديوان، صحبة شعراء شباب، من أمثال جلال الحكماوي وإدريس علوش وطه وعدنان وياسين وإدريس علوش وأزغاي، هم بصدد بناء القصيدة المغربية الجديدة، التي لا تثير قطيعة مع ما سبق لكنها، في نفس الوقت، لا تنسخه.

يبقى أن نشير إلى أن أي قارئ لهذا الديوان لن يخرج، بالتأكيد، لا مباليا، وهذا لعمري جدوى القصيدة الحديثة.