عالم آثار سوداني يروي تجربته قصصيا

يوميات أناس حقيقيين بأسماء مستعارة

TT

لم يرد صلاح الدين محمد أحمد، عالم الآثار، والمدير الميداني لإنقاذ آثار سدّ مروي في شمال السودان أن يكتب تقريرا علميا عن مجمل أعمال الحفر التي استمرت لعامين قبل بناء السدّ، ولذا رأى أن يكون التقرير في أسلوب قصصي يحكي الواقع ويقربه الى القارئ، بعيدا عن المصطلحات العلمية المتخصصة، فجاء في قصة بعنوان «الخزان».

وبطل القصة أو الراوي هو باحث الآثار الذي التصق بمهنته وأحبها وتعلم منها الزهد في الدنيا وأن الزوال مصير كل شيء، ويتساءل دوما «ما جدوي الصراعات؟!»..

خرجت القصة في أسلوب جميل بسيط، ليست فيها عقد أو حبكات أو نهاية مثيرة، بل هي أشبه بيوميات، شخوصها حقيقيون وإن بأسماء مستعارة. وهم اثاريون سودانيون وأجانب اجتمعوا في قرية صغيرة نائية قابعة في الصحراء، على مجرى النيل، تحولت في مدة وجيزة الى مدينة صاخبة بسبب اختيارها لإقامة سدّ مروي الضخم. وتسجل القصة تفاصيل عمليات الحفر وردود فعل أهل المنطقة لبناء السدّ بين موافق ورافض، ومطالب بتعويض في مشاهد حوارية قصيرة. كما تضم القصة معلومات أثرية مختلفة، عن حقب الوثنية والمسيحية والإسلام، وطرق الدفن لكل منهم، ووصفاً لمقابر النساء الحاوية على أدوات الزينة وعقود الخرز، ومقابر الرجال التي تحوي بداخلها سهاماً برونزية!

وتقيم القصة مقارنة بين جيل الآثاريين القدامي الذين تخرجوا من جامعة الخرطوم وكان معظمهم من الطلاب الذكور والخريجات القليلات يذهبن ـ حتما ـ للالتحاق بالعمل بالمتاحف، أما الجيل الحالي فجلهم من الآثاريات البنات اللواتي لا يترددن في العمل بمناطق الكشوفات الجديدة رغم كل الصعوبات الطبيعية التي يجدنها، بينما الطلاب القلائل ما أن يتخرجوا حتى يلتحقوا للعمل بالسوق أو البيزنس!

ومن الحكايا الطريفة أن سكان منطقة مروي كانوا يتباهون ويتفاخرون دوما بأجدادهم الشيوخ المكرّمين، وأشاروا لعلماء الآثار الى كوم قالوا إن فيه دفن الشيخ «صالح مروي»، وعندما قام الآثاريون بتنقيب المقبرة وجدوا هياكل عظمية لمسيحيين، تم التعرف عليها من طريقة الدفن، فصعق الأهالي وحاولوا التنصل من أجدادهم وتغيير أنسابهم وأصولهم والبحث عن جذور أخرى، ولم تفلح محاولات علماء الآثار فى إقناعهم بأن اجدادهم كانوا مسيحيين موحدين وأن الأجيال التي أتت بعدهم اعتنقت الإسلام!

كما يكتب الراوي عن الاختلافات الثقافية بين علماء الآثار الأجانب والسودانيين، فالدكتور ديفيد ويلز الباحث البريطاني وأحد شخوص القصة يحكي لزوجته التي زارته فى منطقة الحفر أنه حين وفاة زميلهم في العمل في بريطانيا، اكتفى مدير المتحف بكتابة نعي في لوحة الإعلانات معددا مآثر الفقيد، وحضر مراسم الدفن اثنان من زملائه، إلا أن الأمور في السودان مختلفة تماما فقد اضطر ديفيد ويلز، مرتين على الأقل، لإيقاف أعمال التنقيب، والاكتفاء بالرسم والتصوير لعدة أيام، مرة بسبب وفاة والد أحد عماله، والثانية بسبب عقد قران خفير لموقع أثري بالقرب من مدينة دنقلا!

سد مروي أحد أكبر المشاريع التي تجري حاليا في شمال السودان ويهدف الى توفير الكهرباء لكل البلاد، والآثار التي تم الكشف عنها في المنطقة يزمع عرضها بمتحف كبير باسم «الملتقى» بشمال البلاد.