حداثة نص أم حداثة سلطة؟

هزيمة 67.. إطار مفصلي للمراجعة وإعادة القراءة

TT

هل لدينا حداثة عربية، أم لدينا فقط الوهم بها. ومن أين تنبع حداثة النص العربي، وأية مقومات وأفكار تكسبه صفة الحداثة، أو تنفض عنه ثوبها، وهل حداثتنا حداثة رؤية وموقف يتشكلان في وعاء التاريخ، أم أنها منبتة الصلة بالجذور؟ مشاريع وأفكار الحداثة العربية لم تنمُ في بيئتها بنحو طبيعي، كما افتقدت التساوق البديهي بين البنيات المكونة للمجتمع، بحيث يرتبط جدل السياسي بالاجتماعي والثقافي والاقتصادي لتشكل في النهاية دائرة واحدة في مرآة المجتمع نفسه.

في كتابه المهم «فجوة الحداثة العربية» يثير الشاعر الدكتور محمود نسيم الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول الطروحات والأفكار والنصوص التي تمثلت تجربة الحداثة العربية في شقيها النظري والتطبيقي، متخذاً من هزيمة 67 إطاراً مفصلياً للمراجعة وإعادة القراءة وطرحا للعديد من الدلالات.

وللوصول إلى ذلك، يستعرض محمود نسيم سؤال الحداثة داخل تاريخ الأفكار الغربية، ويناقش سياقاتها التاريخية والاجتماعية ومرجعياتها المعرفية والفكرية لدى عدد من الفلاسفة والباحثين. ويرى أن الحداثة لا يمكن اختزالها في مفهوم سوسيولوجي أو سياسي أو حتى تاريخي، فبرغم رفضها لكل ما هو قديم، وكل ما يدعو إلى التقليد أو الاحتذاء إلا أن قوة تأثيرها وفعلها في الواقع ترتبط بما ينسج حولها من أساطير، لدرجة يتداخل في مظاهرها ما هو واقعي وما هو أسطوري.

ويكشف المؤلف عن تناقضات الحداثة، وكيف تراوغ ظاهرياً تحت أقنعة تجانسها، لافتاً إلى أن ذلك يتبدى في نسبيتها، وتغير مفاهيمها، بخاصة عند ارتحالها لبيئات وسياقات تاريخية أخرى. ويدلل على ذلك برحلة الحداثة الغربية في المجتمعات العربية، حيث لم تأخذ منها سوى مظاهرها المادية ثقافياً وإدارياً وتقنياً وعلمياً، في غيبة الشروط المادية المرافقة للحداثة الغربية، والتي تجسدت في الثورة الفكرية والسياسية والصناعية.

وعلى ذلك ـ وكما يرى المؤلف ـ اتسمت علاقة العرب بالحداثة باللاتاريخية، والتعامل الآيديولوجي، ولم يتم النظر إليها باعتبارها ـ على حد تعبير باشلار ـ جدلية القطيعة، بل تحولت إلى دينامية للخلط ومراكمة الأفكار والمذاهب والمناهج.

وأتصور في ظل هذه المفارقة التي يرصدها الباحث أن مشاريع وأفكار الحداثة العربية لم تنمُ في بيئتها بشكل طبيعي، كما افتقدت التساوق البديهي بين البنيات المكونة للمجتمع، بحيث يرتبط جدل السياسي بالاجتماعي والثقافي والاقتصادي لتشكل في النهاية دائرة واحدة في مرآة المجتمع نفسه.. ولا يمكن أن نغفل هنا عوامل الغزو والاحتلال التي تعرضت لها الدول العربية من قبل الغرب، والتي كان لها دور في جعل هواجس الحداثة العربية تبدو في أوقات كثيرة، وكأنها مجرد استعارة بلاغية مشوهة، ومضطربة على هامش متن المنجز الغربي للحداثة لذلك لم يكن غريباً أن يظل النص العربي يراوح عزلة قسرية، تمليها أحياناً عليه الكتابة، وأحياناً أخرى الضغوط الخارجية، إلى الدرجة التي أصبح يفتقد فيها حتى «تيهه» الخاص، بعيداً عن مماحكات الحداثة الغربية، ابنة البنيات المجتمعية الواضحة، والغايات المحددة.

وإذا كنت أتفق بشكل مبدئي، وكما يشير الباحث إلى أن عزلة الكتابة العربية عن موضوعها منعتها من أن تفحص معنى حداثتها في الواقع الفعلي، وأوقعتها في الكثير من الأوهام إذ اعتقدت أنها يمكن أن تكون حديثة بذاتها من خلال شرط الكتابة التي تمتلك خصوصيته الابداعية.. فإنني أتساءل أيضاً: ما الذي يقيم شرط الحداثة، إن لم تكن خصوصية الإبداع نفسه، والتي قد لا تتطابق بالضرورة مع خصوصية الواقع الفعلي، بل تفترق عنها وتسمو عليها، باعتبار الإبداع ظاهرة ذاتية في المقام الأول تفترض نوعاً ما من الاستقلالية عن بقية الظواهر التي تحكم المجتمع.

أضف إلى ذلك أن مشكلة الحداثة العربية، ومكمن تشيؤاتها، أنها لم تلتفت إلى ذاتها، بقدر التفاتها دائماً إلى ما يمكن أن أسميه «الخصوم التقليديين»، والتي أحياناً تتفنن في صناعتهم تحت أقنعتها لتبرير الاحتجاج والتمرد، ويمثل التراث بمكوناته السلبية والإيجابية أبرز هؤلاء الخصوم. فهو يشكل نقطة تقاطع مفصلية وفارقة بين لحظتين، بين زمنين، بين وعيين، تشترط الحداثة القطيعة بينهما. لقد أفرز كل هذا نوعاً من الالتباس الشائك، خاصة في علاقة الأنا بذاتها، والذات بموضوعها، إلى الحد الذي أصبح الوعي بهذا الخصم هو الخصم نفسه، بل أصبح التمرد على التابو هو التابو نفسه.

يفاقم ذلك اعتبار التراث بمثابة نظرة إلى الماضي، وأن تعاطيه قد يراكم ما أنتج سلفاً، وهو ما يتعارض مع مفهوم الحداثة، باعتبارها اختراقاً مستمراً في الزمن، يسعى لتوليد الأشكال والنماذج، سواء على مستوى الفكر، أو على مستوى الممارسة، وهو ما يشير إليه المؤلف في بحثه عن محددات لمفهوم الحداثة، وتلمس علاقتها بمفهوم الخطاب الذي كرس له «فوكو» أو مفهوم «العصرية» كما أوضحه «لوفيفر» أو على المستوى التقني في تغيير شروط الحياة المتعاقبة، بتحويل البيئة الطبيعية إلى طاقة متجددة تتجاوز النمط التقليدي لعلاقات الإنتاج وقوى العمل، بحسب المنظور الماركسي. ثم يستعرض التحولات الفنية والمعرفية التي واكبت هذه الأفكار.

ويتوقف عند «بودلير» ويعتبره شاعر الحداثة بامتياز، مدللاً على ذلك بمقدرة بودلير الشعرية على سبر أغوار الذات وكشف جحيمها عبر كيمياء اللغة، كما أنه أيضاً شاعر مدينة بامتياز، ففي شعره تطل بشاعتها وأسفلتها وأضواؤها الصناعية، وأحجارها وخطاياها.

ومع إعجابي الشديد ببودلير وتأثري به كشاعر له روح خاصة، إلا أنني أتصور أن النظر إليه في هذا السياق وبهذا الاعتبار لا يخلو من رومانسية ما، فصراخات المدن لا تصنع حداثة بالضرورة، وكذلك عزل الطبيعة تحت وطأة المنجزات العصرية، لا يصنع حداثة بالضرورة، وأرى أن شعرية بودلير بامتدادها السامق في الزمان والمكان تستعصي على هذا الوصف الخارجي، فالحداثة بكل ملابساتها تظل مجرد نتوء مراوغ، ضمن ما يحتويه أي إبداع حقيقي.

ويشكل ما يسميه الباحث «عقل الحداثة» عصباً رئيسياً في الكتاب، وتحت ظله يدرس التباسات الحداثة العربية، عبر بياناتها وتداخل مراحلها وتشابكها.

ويقف على الإشارات الدالة في طروحات وأفكار عدد من منظريها أمثال أدونيس ـ هشام شرابي ـ محمد بنيس ـ جمال باروت ـ محمد عابد الجابري ـ خالدة سعيد ـ محمود أمين العالم ـ على حرب ـ محمد برادة وغيرهم.

ويضع ذلك تحت محور «الحواجز المتجاورة» وهو ما يعني ضمنياً أن ثمة شكلاً من أشكال المماثلة، يجمع بين كل هذه الطروحات، فيما تختلف أو تتفق فيه. كما يستعرض في هذا السياق طروحات النهضة العربية، ومشاريع التحديث والتنوير، باعتبار أن نزوعها العقلاني وتغليبها لسلطة العقل يصب في فكرة الحداثة.

ويردف محمود نسيم ـ على سبيل الاختبار ـ مبحثه النظري والذي تجاوز 500 صفحة بطروحات نقدية تطبيقية، تتصل ببعض الإبداعات الشعرية والمسرحية، مثل تناوله قصيدة النثر في إطار الحداثة الشعرية العربية، أو التركيز على مسرح عبد الله ونوس، باعتباره الاستشراف الأبرز لهذا الاشكال، على مستوى الخبرة الفنية، ومردوداتها السياسية والاجتماعية والتراثية معاً.

ويخلص نسيم إلى ملاحظة مهمة حيث يقرر أن المسرح العربي وعلى عكس السرد والشعر تحديداً لم ير منظروه ومبدعوه في التراث العربي عبئاً يجب تجاوزه، بل على العكس تماماً رأوا فيه انبعاثاً لا تناقصاً للهوية، ويفسر ذلك باستحضار مبدعي المسرح للمظاهر شبه المسرحية المهمشة في الحضارة العربية، وجعلها تشكل مركزياً الصياغات الرئيسية للحداثة.

وفي هذا السياق، يوجز الفارق بين الحداثة الشعرية وبين الحداثة المسرحية في أن الأولى استمدت أشكالها وتصوراتها من الغرب، فيما رأت الثانية في التراث هوية ممكنة، وهو ما جعل الشعر ـ على حد قوله ـ يتمركز حول كتابة «الذات» على عكس المسرح الذي تحول في صياغاته الأخيرة من الجماعة إلى الفردية.. وأتصور أن هذه النظرة تحتاج إلى الكثير من التدقيق، وأظن أنه من الصعب، بل من غير المنطقي أن توصم الشعرية العربية وخلفها 14 قرناً من التراث الشعري بأن تعاطيها للحداثة مستمد من الغرب، ويعرف محمود نسيم نفسه وهو شاعر في المقام الأول أن روافد الحداثة في الشعرية العربية الراهنة، نبعت من ثورتها على عمود الشعر العربي، وكسر النمط التقليدي السائد في تراثه على مدى تلك العقود.. هي ثورة إذن ضد الثبات والجمود، من أجل توليد أشكال ونماذج شعرية مغايرة، بصرف النظر عن شظايا من خبرة الحداثة الغربية تتناثر أحياناً في بعض الكتابات النقدية حول واقع الشعر العربي.

أما مسألة ترقيع أفق الحداثة المسرحية العربية بمظاهر وشبهات «تمسرح» تكاد تكون هلامية في الحضارة العربية القديمة فهو في تصوري يمثل أحد مآزق هذه الحداثة، في إيجاد هوية خاصة بها، بعيداً عن منجز الآخر، أياَ كان من التراث أو من غيره.. ولو التفت محمود نسيم هنا إلى اعتبارات الشكل والتي أولتها الحداثة الشعرية العربية أهمية فائقة بخاصة في السبعينيات، لما وصل إلى هذه المقاربة التي تشكل في جوهرها حكم قيمة أرى أنه حاد كثيراً عن الصواب.

يبقى في هذه الملاحظات العابرة ثمة سؤال فارق في تصوري: هل المسألة حداثة نص ونخبة أم حداثة سلطة ومجتمع؟!

* «فجوة الحداثة العربية»

* المؤلف: د.محمود نسيم

* الناشر: أكاديمية الفنون

* سلسلة الرسائل