النهضة برنامج مؤجل دائماً إشكاليات الفكر العربي المعاصر

TT

يتناول الدكتور أحمد جدي في كتابه «محنة النهضة ولغز التاريخ في الفكر العربي الحديث والمعاصر» الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، مأزق الثنائيات أو الازدواج الذي أصبح الفكر العربي الإسلامي يتموضع عليه كقاعدة يبني عليها نتائجه ومحصلاته، فصادر التطلعات الجديدة، وحال دون توليد معادلات أخرى مساعدة أو رديفة مع تجذره وتعاظمه

مع تجذر الحضور الغربي بأشكاله المختلفة منذ القرن الخامس عشر وصولاً إلى الراهن، والمفكرون والمصلحون والسياسيون العرب يعبِّرون عن المحنة بمستويين مختلفين ومتكاملين. أولهما: المقارنة بين الغرب والعالم العربي والإسلامي. وثانيهما: المقارنة بين حاضر العرب والمسلمين وماضيهم. وفي المستويين لم يتساءل هؤلاء المفكرون والمصلحون والساسة هل المقارنة علمية وجائزة، أم هي اعتباطية وسطحية، أم مجازفة فكرية تحول دون الفهم العلمي للتاريخ العربي والإسلامي الحديث والمعاصر.

هذه الثنائيات التي تفصل فصلاً حاداً بين الحاضر والماضي، أو التراث والأصالة، أو التقدم والتأخر، أو الأنا والآخر، أو الشرق والغرب، هي سجلاّت معرفية التقت عندها العوامل العربية والإسلامية بالعوامل والمعطيات الغربية، وتفاعلت فيها، بالتأثير والتأثر، أبعاد الدين والفقه والأخلاق مع ما أنتجه الفكر السياسي الغربي الحديث. وتباينت فيها الأنظم والسلوكيات الاقتصادية الثقافية الغربية الجديدة مع الممارسات التقليدية العربية الإسلامية إلى جانب العلاقات الاجتماعية المختلفة.

اختزل المصلحون العرب من مفكرين ونخب مثقفة وأهل القلم هذا التفاعل، وهذه الطروحات المعرفية في مصطلحات لا تخلو من المآزق والإشكاليات الفكرية مثل التقدم والتنمية والتخلف والتبعية والاستقلال والعمران والخراب، حتى أمكن القول عن استمرارية الفكر الخلدوني كفكر وحيد إلى القرن الواحد والعشرين.

طرحت الحركة الاصلاحية في بداياتها الأولى السؤال الإشكالي المركزي: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم؟ و «غيرهم» هنا ليس سوى الغرب الأوروبي تحديداً. لم يكن هذا السؤال ميزة الفكر الاصلاحي العربي الإسلامي فحسب، بل أصبح العلامة المميزة للمأزق التاريخي العربي الإسلامي في العهدين الحديث والمعاصر.

فالمسلمون والعرب يطمحون منذ القرن السادس عشر إلى تحوّل تاريخي عميق يضعهم في حركة التاريخ الإنسانية كند لا كتابع. وارتبط هذا الطموح في النهوض على الطريقة الغربية. فوضعوا أنفسهم في فلك الغرب والالتحاق. فكانت العلاقة غير متكافئة، ففي حين قامت النهضة الأوروبية على قاعدة قطع العلاقات مع السائد والمسلمات والدوغمائيات، وتجرأت فأجابت عن الأسئلة الكبرى بإقامة علاقات جديدة مع العلم والكون والحضارة والمجتمع والاقتصاد والفن والسياسة، ممّا مدّ النهضة بدوافع متصاعدة ومتواترة. فإن العرب ظلّوا أسرى المفاهيم المعطّلة يهدرون الزمن باسترجاع ما فات، ويجتهدون من أجل ربيع العرب والمسلمين الذي لم يأتِ بعد، ولن يأتي قبل أن يتصالح العرب والمسلمون مع التاريخ ليكونوا فاعلين ومتفاعلين لا منفعلين.

لم يسعَ المؤلف الدكتور أحمد جدي في كتابه «محنة النهضة ولغز التاريخ في الفكر العربي الحديث»، إلى التأريخ أو التنظير بل حاول تعرية بعض المستويات أو الجوانب من تاريخ العرب والمسلمين المعقد والمشحون إنطلاقاً من عيّنات، مثل الثورة الفرنسية، والمصطلح الاقتصادي، وأزمة التاريخ بين الشفوي والمكتوب، وعلاقة النخبة بكتابة التاريخ، والحركات الاجتماعية السياسية وإشكالات المستقبل والنهضة والتقدم والحداثة والتاريخ والغرب.

يستعرض المؤلف الثورة الفرنسية في الفكر العربي الحديث، فيقدم نماذج من كتّاب وإخباريين لبنانيين معاصرين لتلك الثورة، أو كتبوا عنها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لما في ذلك من دليل على الاهتمام المتفاوت في الفكر العربي الحديث بالثورة الفرنسية، من ناحية، وعلاقاته المتنوعة بالتاريخ والكتابة التاريخية، من ناحية أخرى. وذلك بالارتكاز على الوقائع اللبنانية المعاصرة للثورة الفرنسية وكشف الموقع الإيديولوجي الذي تعبر عنه هذه الوقائع في تأريخها لها، وكذلك كشف النقاب السياسي المحلي في لبنان، أي ارتباط رؤية أحداث ومسيرة الثورة الفرنسية وفهمها بطبيعة الخطاب الفكري والإيديولوجي للإخباريين والكتّاب اللبنانيين عن أحداث لبنان في الفترة نفسها. وهو يجد أن هذه الثورة لم تكن موضوعاً تاريخياً في الفكر العربي الحديث لأن ما قام به هؤلاء الكتّاب جاء عرضاً، وأن الحملة الفرنسية على مصر هي التي مارست ضغطاً كبيراً على الكتّاب اللبنانيين، وأجبرتهم على تخصيص بعض الأفكار والخواطر والمعلومات والصفحات القليلة لأحداث الثورة الفرنسية، مما يدل أنه لم ينظر إليها كحدث تاريخي متميز وعميق بحدّ ذاته، رغم إجماع هؤلاء الكتّاب على أنها حدث غير مألوف. فهل يعني ذلك أن الفكر العربي الحديث لم يتعامل مع السائد والمألوف بأكثر كثافة وأهميّة من غير المألوف؟.

يقرر المؤلف، بعد أن يستعرض مؤلفات الكتاب اللبنانيين العديدة التي تناولت هذه الثورة، أن تعلق الفكر العربي بالحدث جعله، لأسباب حضارية معرفية بنيوية، سجيناً له لم يستطع تجاوزه للحفر في مصادره وأسبابه وآلياته وقواه الاجتماعية والسياسية والفكرية، في الوقت الذي يعرف الغرب تحولاته الجذرية، وهذا يعني أن الفكر العربي الحديث يعيش تاريخ الآخرين، كما يفهم ويعيش تاريخه ولحظته الزمنية. وهنا تكمن أزمة الفكر العربي الحديث في كتابته لتاريخه أو في تأريخه للآخر، ذلك أن المسكوت عنه أهم وأعمق. أما في بحثه في الإشكالية الاقتصادية في الفكر العربي الحديث، فقد اختار المؤلف أحمد بن أبي ضياف وخير الدين التونسي باشا مثالاً للمفكرين التونسيين الاصلاحيين في القرن التاسع عشر. وبعد أن عرض للمسألة الاقتصادية، تساءل عما إذا كان المصلحون التونسيون قد ربطوا هذه المسألة بالمسألة السياسية؟ وهل وصلوا إلى إنتاج فكر اقتصادي متكامل أو نظرية اقتصادية؟ ثم ما هي المكانة التي يحتلها الفكر الاقتصادي في الفكر الاصلاحي التونسي الحديث؟ وخلص إلى الإشكالية الاقتصادية في الفكر العربي المعاصر تتمثل في العلاقة الصعبة التي مفادها أن التنمية هي التحديث، والتحديث نتيجة للتنمية. وهنا تكمن أزمة الفكر الاقتصادي العربي المعاصر الذي يخلط بين المفاهيم والإشكاليات المرتبطة بالتنمية والتبعية والاستقلال الاقتصادي، في غياب دراسات جادة تعنى بالتبعية والتخلف.

وفي المحصلة يرى المؤلف أن تعرض خير الدين التونسي وأحمد بن أبي ضياف إلى مختلف أوجه المسألة الاقتصادية لا يعني أن لهما مقاربة اقتصادية لقضايا المجتمع، بل تندرج مساهمة كل منهما في إطار الفكر الإصلاحي وفكر النهضة عموماً الذي دخل في شبكة علاقات وجدليات مع النظام الرأسمالي الغربي. وفي موضوعه الجبرتي بين سلطان الفقه وسلطان التاريخ يجد أن الجبرتي الذي كتب التاريخ تحت تأثير أزمة عامة تمثلت في حملة نابليون على مصر، لم يعرف نفسه مؤرخاً، وان منهجية الجبرتي مركزة على الوصف والسرد والمشاهدة والمقارنة والشفهي. وقد أرخ لحملة نابليون بوصفها حدثاً عظيماً عجيباً ومحنة جديدة.

أما في إشكالية النهضة في الفكر العربي المعاصر فيأخذ المؤلف عمر فاخوري مثالاً في كتابه «كيف ينهض العرب؟» فيرى أن سؤال النهضة في فكر العرب والمسلمين مرتبط، بالضرورة، بواقع وسؤال الأزمة في المجتمع العربي الإسلامي، ونشأة هذا السؤال مشروط بأجهزة السلطة السياسية ونوعية علاقاتها بحركة المجتمع وتفكيره، وردود الفعل العام، وفي اتجاهات عديدة، ذلك أن البحث في مسائل الأزمة والنهضة يعني بالضرورة البحث في طبيعة السلطة السياسية والعلاقات الاجتماعية والنظرة إلى الكون والآخر. ومن هنا تنشأ ثنائية الفكر السياسي في النهضة: الاستبداد / الديمقراطية، الخراب / العمران، التأخر / التقدم. هكذا تكون النهضة مصطلحاً وفكراً ومشروعاً، مولوداً عليلاً، لأن الفضاء العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، سلطة سياسية، ومجتمعاً وثقافة وعلاقات، يراكم الأزمات ويواجه باستمرار مسائل ومشاكل جديدة تزيد الركام السابق والطبقات الدفينة تعقيداً، مما يفسر أن النهضة العربية هي باستمرار برنامج مؤجل، وبالتالي يحدث التصادم بين المفاهيم في الفكر العربي المعاصر وتتعمق صدمة الحداثة مع واقع اللاحداثة في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر.

يخلص المؤلف في كتابه إلى القول إن السبب الأساسي والمرجعي في عدم احتلال الحضارة العربية الإسلامية موقعاً مميزاً وفاعلاً في التاريخ الحديث والمعاصر مرتبط بالضرورة بعلاقات وقراءات محدودة مع ثالوث الأزمة: التراث، والتاريخ الحاضر، والغرب. وإذا لم تحدث القطيعة التاريخية مع أنماط التفكير والسلطة والعلاقات الاجتماعية لإنجاز النهضة، وإذا لم يخرج الفكر العربي من التلفيقية السطحية، المتمثلة في محاولات الربط بين الغرب والشرق، أو بين حاضر المسلمين وماضيهم، أو بين حاضرهم وحاضر الغرب، فإننا نجسد تخلفنا بجمع نثار فكرية من أزمنة متباينة، ومن تجارب تاريخية مختلفة، ونمنع التقدم من أن يتقدم ليلغي تخلفنا.

* محنة النهضة ولغز التاريخ

* الدكتور أحمد جدي

- مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 2005