في عيده الرابع والتسعين: من هو نجيب محفوظ؟

بدأ بترجمة «مصر القديمة» لجيمس بيكي فطبع حياته كلها

TT

لا يلتفت نقاد نجيب محفوظ، عادة، إلى عمله الأول، الذي لم يكن سوى ترجمة لكتاب «مصر القديمة» لجيمس بيكي، وصدر عام 1932، أي قبل المجموعة القصصية الأولى لمحفوظ «همس الجنون» بست سنوات. لكن المتفحص لكتاب بيكي قد تنتابه الدهشة من تحليله لشخصية المصري القديم البسيط، المحكوم لا الحاكم، بل من انحيازاته لأفضل مهنة وحياة يمكن للمصري قديماً وحديثاً أن يسلكها ليحيا آمناً سعيداً. وسبب الدهشة أن من هذه الانحيازات ما ينطبق على عميد الرواية العربية الذي احتفلنا ببلوغه الرابعة والتسعين في الحادي عشر من ديسمبر الجاري. فهل كان بيكي في «مصر القديمة» يرسم سيرة محفوظ مصادفة، أم أن محفوظ آمن بتحليل بيكي ووجده أفضل ما يؤخذ كقدوة، فسار عليه.

يقول جيمس بيكي، الذي استهل نجيب محفوظ حياته مترجماً لكتابه: «المصري يؤثر عيشة السلم على الحرب وليس أشهى لديه من الإقامة في حقله بين أسرته وقطعانه يزرع الأرض ويرويها. هكذا المصري وهكذا كان آباؤه وأجداده، لكن إذا أمر فرعون بالحرب فلا يوجد من يتردد في طاعة أمره... وفي الحقيقة كان المصري لا يرضى لنفسه أن يحترف الجندية، لأنه كان يعتقد أنها عمل مؤلم لا يختلف عن (الأعمال الشاقة)... أما ما يرجوه من الحياة فهو أن يفوز بعمل كاتب... في مصالح الحكومة يكتب التقارير...» وينتهي بيكي بالوصية الحكيمة للمصري السعيد «خير من كل ذلك أن تختار لنفسك مهنة كمهنة الكتابة، وتعيش سعيداً في وطنك». لقد كتب كثيرون عن حياة محفوظ الإنسان الذي لم يخرج يوماً من مصر، عن طقوسه وعاداته، عن أماكنه ولقاءاته، وخوفه من السجن وما يحدث فيه، وابتعاده لهذا السبب عن ممارسة السياسة والحديث فيها، ومنهم من انتقد موقفه من السلطات المصرية على تعاقبها واختلاف مواقفه من كل منها.

فهل يمكننا أن نتساءل اليوم، من هو نجيب محفوظ، أو من يعرف نجيب محفوظ؟ وأن نطرح هذا السؤال بعيداً عمن تعودنا أن نتلقى منهم إجابات وشهادات، فلا يسعنا هنا إلا أن نبحث عن مقهى ريش، الذي أكد نجيب محفوظ في حواره الطويل مع طارق حبيب في السبعينيات، أنه ما كان يمكن أن يجد مكاناً افضل منه لعقد ندواته الأسبوعية منذ الستينيات، إضافة لتناول قهوته الصباحية اليومية، لأن حديقة ريش احتضنت شباب ثورة 1919 في اجتماعاتهم. وكان هذا سبباً كافياً لمحفوظ الوفدي القديم، الذي لم يكن أحد ليغضبه إلا إذا تناول سعد زغلول بكلمة فيستشيط لها محفوظ غضباً. في مقهى ريش نستمع لرأي نادل المقهى وابن صاحبه وأهم رواده، والناقد الذي تعلم على مقاعده، والشاعر الذي مر ببابه، والقطب الناصري الذي تحول موقفه من محفوظ بعد سنين.

نبدأ بفلفل النادل الذي اعتاد أن يقدم يومياً فنجاني قهوة أو ثلاثة لمحفوظ، كي يرشف من القهوة وجهها ولا يكملها. فلفل يرى محفوظاً الجاد المحترم والمتواضع، الذي يعامل الكبير والصغير سواسية، ولا يتبادل الكلمات إلا في حدود الطلبات فقط، وكان يزيد مع فلفل فيسأل عن الصحة والحال لا أكثر ولا اقل. ويتحدث فلفل بوجه جاد صارم ومتأمل، ويبدو سعيداً فخوراً بالأسئلة التي يقدم عنها إجابة شحيحة لكنها صادقة. أما ميشيل عبد الملك ابن صاحب ريش الراحل، فكان صغيراً يافعاً يراقب الأستاذ من بعيد، يراه يأتي يومياً في السابعة صباحاً مشياً من بيته، يتناول قهوته، ويتابعه في ندواته الأسبوعية: «كان قليل الكلام، يستمع أكثر لمن حوله، بعكس عباس الأسواني الحكاء الراحل الذي كان يتحدث دوماً فيأخذ الناس عنه». يرى ميشيل أن موهبة الإنصات لدى محفوظ كانت عن عمد، حيث تدخل كل الحكايات التي تُقص من حوله إلى معمل الفكر، لتطبخ على مهل وتدعم بالعمل والخيال، ويخرج بعضها في أعماله. كما يرى ميشيل أن اهتمام المستشرقين من رواد ريش بأعمال الأستاذ، كان خطوة أولى في طريق نوبل، حيث كان منهم من يأتي يوم الجمعة، ويدفعه الفضول لمعرفة من هذا الشخص الذي يجتمع حوله الناس. وحينما يتحدث الأستاذ فهناك موضوع واحد لن يطرقه وهو السياسة. لكن ميشيل يرى ان الأستاذ قدم ما عليه في السياسة، ويتذكر على الفور «ثرثرة فوق النيل»، ويقول: «نعرف أن ثروت أباظة تحدث إلى جمال عبد الناصر،عن هامش الحرية، ليُترك محفوظ وأعماله في سلام». ويؤكد ميشيل على أن مقهى الكرنك هو مزج بين مقهى ريش ومقهى كازينو صفية حلمي الذي كان مقراً سابقاً للأستاذ. أما عازر فرج من رواد ريش، فهو الشاب الدائم الحضور سابقاً في ندوات الأستاذ، ويصف محفوظ بأن له قدرة مصرية صميمة على الفكاهة وخفة الظل والقفشات الفورية والنكات المتبادلة مع أقرانه في الجلسات، مع تأكيده على كون الأستاذ شخصاً مسالماً غير صدامي. وأخبرنا عازر عن أحد أهم أسباب إصابة محفوظ بمرض السكر الذي جعله يتوقف عن تناول أحب شيء لقلبه، وهو الآيس كريم. فقد أخذ الأستاذ ذات يوم قيمة جائزة قدمت له، واشترى أرضاً على النيل في منطقة المعادي حيث كان يريد السكن هناك، لكن من باعوه الأرض كانوا من النصابين، فخسر ماله وأصابه السكر.

ويرى عازر ان الأستاذ سياسي من رأسه حتى قدميه، فقد استخدم الفن ليؤرخ للحياة الاجتماعية في مصر وليقدم رواياته السياسية وكذلك نبوءاته، فرواية الشحاذ تنبأت بأن بديل حرمان الشعب المصري من ممارساته السياسية هو اللجوء للانعزال والتفسير المتزمت للدين، وهذا ما أدى لظهور الجماعات المتطرفة. ويقول عازر «نعرف أن محمد حسنين هيكل لعب دوراً في الدفاع عن محفوظ وحمايته من الأجهزة الأمنية التي طالما ألحت على جمال عبد الناصر بأن كثيراً من روايات محفوظ تنتقد النظام والأوضاع القائمة بشدة». ويتذكر عازر قصة قصيرة لمحفوظ هي «القطار»، التي تحكي عن سائق جن وقاد القطار في الطريق العكسي، وافلح هيكل أن يقنع عبد الناصر أنه ليس المقصود. وينهي عازر بالقول إنه لم ير في حياته في نزاهة محفوظ الذي كان رئيساً لمؤسسة السينما، ويقف في الطابور ليقطع تذكرة ويدخل فيلماً عن إحدى رواياته. وقد التقى عازر بالأستاذ بعد عودته من مشاهدة فيلم «السمان والخريف»، وشكا محفوظ من امرأة سمعها تقول لزوجها إنها لم تر في الفيلم أي سمان، أي انها لم تفهم المقصود من وراء المعاني الظاهرة، وأضاف أن هذا حال بعض المثقفين مع أعماله أيضاً.

أما الناقد والشاعر الأردني ـ الفلسطيني خيري منصور الذي كان في السابعة عشرة، يجلس على رصيف مقهى ريش، ويرى الأستاذ من بعيد، فقد شاءت الصدفة أن يكون أول من تحدث عن أعماله في إذاعة «صوت أميركا» بعد الإعلان عن فوز محفوظ بنوبل بأربع دقائق. وهو يرى أن محفوظ كان يستحق نوبل قبل عشرين عاماً من منحها له، لكن مصر عبد الناصر ما كان ليٌمنح أحد أدبائها نوبل، بل مصر السادات بعد كامب ديفيد. ويقول منصور «عاش محفوظ الصراع العربي ـ الإسرائيلي بمراحله المختلفة، وشهد كأبناء جيله أكبر تراجيديا ألمت بشعب فلسطين، لكنه لم يعبر على نحو مباشر عن هذا الصراع. قد يكون التفسير أن الروائي ليس مطالباً بتوظيف نصه في صراع، لكن حتماً ما دام يحرك شخوصاً، فلا بد أن يكون لأحدهم علاقة بهذا الصراع». ويرى منصور أن محفوظ يجب أن يُحرر من القراءات المتداولة الخاطئة، التي يقوم بعضها على رؤية سياحية، وأن رواياته دليل للأحياء الشعبية وكأنها فلكلور، لكنها دليل فكري إلى أشد الأسئلة حيوية.

أما المفكر والقطب الناصري محمد عودة، فيقول «كنت أعترض على مواقف محفوظ من ثورة يوليو، اليوم أقول، من يريد أن يعرف مصر فعليه أن يقرأ محفوظ. فهو من رأى مصر سيمفونية صوفية». ولا يبرر لنا عودة تغيير رأيه، إلا بأن من حق الإنسان أن يغير رأيه. وهو اليوم يتعاطف مع محفوظ، ويعرف أن أي خطأ ارتكبه في حق الثورة كان بسبب سوء فهم، والمهم أنه كان صادقاً. فمحفوظ لم يكن يحب العنف، أو يستسيغ ثورة يكون لها ضحايا، وهو لم يتقبل ذلك. ويؤكد عودة «لست مع من يرون أن محفوظ كان عليه القيام بأكثر مما قام به».

الشاعر عبد المنعم رمضان يعتبر «ان عبقرية نجيب محفوظ تالية على العمل، وليست سابقة عليه، ولذلك فهو سليل أصيل للمصري القديم بامتياز. المصري الذي يعرف قيمة العمل فيبني الأهرامات والقلاع والمعابد والقصور ويبني الفنون ويبني الروايات. ومحفوظ حسب رأيه: «احتال حيلة كبرى، في سبيل الحفاظ على أسئلته ومشروعه. وكانت تلك الحيلة هي ألا يصطدم مع سلطان الوقت؛ مع السلطات المؤقتة». ويضيف رمضان: «الصحيح أن أقول زغلل نجيب عيون هذا السلطان بمقالات كثيرة كان ينشرها تباعاً، كانت أشبه بغطاء الزجاجة الذي يحفظ ما بداخلها، وكان نجيب يدرك مثلما أدرك سلفه المصري القديم أن السلطات في واد والكائن البسيط في واد آخر، قنع نجيب بالإقامة في الوادي الآخر، مع تمرير بعض الأماديح الخافتة للوادي الأول، علها تعصمه وتعصم ما يفعله من الأقدام الغليظة، من العساكر والرقباء. فأسكت السلطات بأن حشا فمها وأذنيها ببعض الزبيب المغشوش».