لفظتان هجينتان تختزلان حياة الجزائريين: «حيطيست» و«آكتيفي»

حين تكتنز كلمة بقاموس من الآمال والآلام

TT

هل يمكن لمفردة أن تلخّص حال بلد بأكمله.. قد يستحيل الأمر في دول كثيرة، لكن الأمر يستقيم في بعض الأحوال القليلة. فالعراق تلخّصه كلمة «دم». فلسطين تخلّصه «احتلال».. الصين «عملاق».. أمّا الجزائر فتلخّصها بأمانة كلمة «حيطيست».

تبدو الكلمة نافرة وغير مستقيمة النطق، بل هجينة عديمة المعنى، ولكن لهذه الأسباب جميعها فهي التلخيص الأمين للواقع الجزائري! فالبلد الذي يسكنه حوالي 32 مليون نسمة؛ ثلاثة أرباعهم لم يتخطوا سن الخامسة والثلاثين، يبدو فيه الشباب مشكلة حقيقية. في هذا الإطار يطرح بعض الظرفاء القضية على النحو التالي: قيل إن مؤسّسة «دراسات» قامت بإحصاء عدد الكلمات التي يستعملها شاب جزائري خلال يوم واحدٍ فكانت المرتبة الأولى من نصيب كلمة «رب» والثانية «دولة» والثالثة «حيطيست». هذه المفردات الثلاث، تشرح كل ما يحدث في الجزائر. فكلمة «رب» تتكرر بكثرة على لسان الشباب الجزائريّ، ليس من فرط إيمانهم بل لأن الجزائري يستعمل كلمة «رب» بمعنى صاحب أو مالك الشيء، فإن قال «رب الدار» أي مالكها أو «رب العائلة» أي مسؤولها الأوّل، وهو ما يجعل تداول الكلمة متكرراً وشائعاً. أمّا لفظة «دولة» فتحتل المرتبة الثانية، لأنّها تجسّد انفرادًا جزائريًا، ذلك أن النظام الاشتراكي الذي سيطر على البلد طوال 27 عاما، علّم الناس الاتّكال، وجعلهم يتوقعون كل شيء منها، بدءًا بالخبز والمكانس وانتهاءً بشفرات الحلاقة وموانع الحمل. وعطفًا على ذلك، فإن أي خطأ في الحياة العامة سوف تعود اللائمة فيه على الدولة التي لم تعبد الطريق، ولم ترمّم المدرسة ولم تصنع الخبز ولم تنزل المطر! ولأن يوميات الجزائريّين عامرة بالمشاكل ـ على حدّ رأيهم ـ فإن السبب الأوّل هو الدولة، ولذا فالملوم والمشتوم الأوّل هو حَضْرَتُهَا.. إذا لم يفتح الباب فاللعنة على الدولة، وإذا تأخّرت الحافلة فألف نار تحرق «جد» أبيها. وإذا غضبت الزوجة فلتكن الضحية هي الدولة.. التي التقينا على طرقاتها!

أمّا كلمة «حيطيست» فهي إحدى نواتج ذلك العهد الاشتراكي الغابر. لقد كان الشباب يصطفّون بالعشرات أمام «مكاتب التوظيف» في انتظار عمل تجود به دولتهم الحنون. ومع الأزمات الاقتصادية العنيفة التي مرّت بها الجزائر، كان الشغل هو الأمنية الأخيرة التي يمكن أن تتحقّق!

والمعضلة أن ذلك العهد لم يعرف وسائل الترفيه، فالشاب إن لم يجد عملاً فلن يستطيع الذهاب إلى مسرح أو سينما أو حتّى حديقة عمومية، ولن يستطيع المكوث في البيت لأن العطالة في الجزائر شتيمة بحقّ الرجولة. والذي لا يعمل سيخجل من رؤية عيني أبويه. إذن، فإن الحل هو التسكع في الشارع، أو الاتّكاء على الحيطان والجدران ـ لا تنسوا فالكسل ظاهرة اشتراكية أيضًا ـ وانتظار الفرج إما:

ـ في صورة ابن الجيران يركض صارخًا «يا احمد.. راهم صابولك خدمة»، أي «يا أحمد لقد عثروا لك على وظيفة». ومرّة أخرى فالدولة هي التي تعثر ولكن الفضل منسوب للمجهول تجنّبًا لمدحها.

ـ أو في صورة الأخ الأصغر ينادي «راهم جاونا الضياف» ـ أي «لقد جاءنا ضيوف»، والفرصة مواتية للاجتماع بالأقارب.

ـ أو في صورة الحسناء ـ بنت الجيران ـ ذاهبة للثانوية أو قادمة من الجامعة. والملاحظة الطريفة هنا، أن الاشتراكية علّمت بعض الجزائريّين الكسل حتّى في المغازلات، فإذا كان غيرهم يركض خلف الحسناوات، فإن بعض الجزائريّين يغازلون وقوفًا وبدون حركة، وعلى «المهتمة بالأمر» أن تتوقّف لتنال نصيبها. ملخّص الوضع أن جزائر الثمانينات والقسم الأعظم من التسعينات، قد ركنت ملايين العاطلين إلى جانب الجدار، أو الحائط باللّهجة الجزائرية. ولأن الجزائريين ينحتون كلماتهم من مزيج فرنسي ـ عربي فقد ابتكروا لوصف المستند إلى الحائط هذا اللفظ المعبّر «حيطيست» وهو يماثل النسج الانجليزي لكلمة صحافي journalist أو طبيب أسنان dentist أو حتّى فنان artist. فكلمة «حيطيست» بهذا المنحى تعني «حائطيا» أو ملتصقا بالحائط، والجميل أنها نسجت لا شعوريًا على منوال أسماء المهن ـ صحافي، طبيب أسنان، فنّان مما يعني ان العطالة والالتصاق بالحائط، صارا «المهنة» أو «النشاط» الوحيد الممكن خلال فترات الأزمات الاقتصادية التي ضربت الجزائر. وجاء اللفظ المعبّر «حيطيست» ليترجم خلاصة مشاكل الجزائريّين، فكل أزماتهم ممثّلة في مشكلة وحيدة هي البطالة!

مرّت على البلد أيّام، كان عدد العاطلين خلالها يزيد على أربعة أو خمسة ملايين شاب، أي نفس تعداد جيش الصين الشعبية، فكيف لا تتحوّل الطاقة إلى وسيلة دمار تعصف بالأخضر واليابس، ما دامت لا تجد منفذًا طبيعيًا للتّنفس؟ والأزمة الدموية التي مرّت بالجزائر وفق هذا الاتّجاه، ليست سوى إحدى التجلّيات العنيفة جدًّا لمعضلة البطالة. والكلمة «حيطيست»، هي الجواب المختصر والأمين لكل سائل عن دواعي ما حصل. كما أنّها تترجم المخرج الوحيد الذي توفّر لشباب رأى بلده يسقط في دوّامة الدم، ويحطّم ذاته، وتحصل فيه الأعاجيب، يقاسي أبناؤه ويستفيد خصومه. لم يكن للشّاب وهو يرى كلّ تلك الكوارث تحصل سوى أن يركن للحائط ويمدّ بصره على الملهاة الدموية تفرض منطقها على الكلّ.

لحسن الحظّ، ومنذ خمس سنوات بالتقريب، عادت الحياة الاقتصادية للنشاط، ومعها راحت نسب البطالة تنخفض إلى حوالي 13 في المائة بعد أن كانت ثلاثة أضعاف هذا الرقم منتصف التسعينات. ومع هذا المؤشّر الإيجابي، فإن الكلمة ذاتها راحت تفقد حضورها القوي، وتتراجع لصالح كلمات مناسبة للوضع الجديد، مثل «آكتيفى ـ activez» أي « تحرّك» أو «انشط» باللغة الفرنسية وقد صارت المفردة الأثيرة لجيل ما بعد الأزمة. وهي عبارة تدعو للنشاط وتؤرّخ لعجلة من السلم والرفاه أخيرًا. وفرق شاسع بين حال تلخّصها كلمة «حيطيست» وأخرى تختزلها مفردة «آكتيفي».. وهو فرق بين زمن انقضى وزمن ينطلق!