جائزة نوبل في الأدب منطلقاتها إبداعية وليست سياسية

الأكاديمية السويدية سلمت جوائزها للفائزين في غياب هارولد بنتر

TT

في العاشر من ديسمبر، وكما جرت العادة، توافد الى استوكهولم الفائزون بجوائز نوبل للعام 2005 لتسلم هذه المكافأة الكبرى

من يد ملك السويد، في جو احتفالي مميز عالميا، يتكرر هذا العام، للمرة الرابعة بعد المائة.

حضر جميع فائزي نوبل هذا العام لتسلم جوائزهم الا واحدا، وهو هارولد بنتر، الحائز جائزة نوبل في الآداب، حيث شاهد وافراد اسرته المراسيم على شاشة التلفاز، وهو مستلق على فراش المستشفى في بريطانيا معانيا من مرض السرطان. لا احد من اسرته المكونة من زوجة وستة ابناء ولا من احفاده الستة عشر، أتى الى استوكهولم لتسلم الجائزة. واوكلت المهمة الى ستيفان باغه، مدير دار نشر «فيبر اند فيبر» في لندن التي تنشر اعمال بنتر. وكانت مؤسسة نوبل في انتظار بنتر لالقاء محاضرة خلال اسبوع نوبل الذي بدأ في الخامس من الحالي، لكن المحاضرة الغيت، وشاهد المهتمون، بدلا من محاضرة بنتر الحية شريطاً متلفزاً تحدث من خلاله الأديب عن مواقفه الصارمة والثابتة المعادية للحروب وللسياسات الأميركية الخارجية على مدار 50 سنة. وخلال 45 دقيقة، تحدث الرجل عن «درجة الصدق في الأدب والسياسة»، وبدا رغم مرضه ممتلكاً لذات المشاعر الثابتة، المناهضة للحرب على العراق. لكن نبأ خطورة وضع بنتر الصحي لم يبدد الشكوك حول عدم مجيئه الى استوكهولم، والتي أعادها البعض الى الانتقادات اللاذعة التي وجهت اليه وللاكاديمية السويدية. حيث لم تشهد الساحات الثقافية، من قبل، سجالاً مماثلاً، وانتقادات بهذه الحدة حول جائزة نوبل للآداب، كما في هذه الايام، وذلك منذ الاعلان، عن اسم الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر فائزا بجائزة هذا العام. وسبب الاهتمام يعود الى ما تتصف به هذه الشخصية من مواقف مثيرة للجدل. فعلى الصعيد الابداعي ليس ثمة خلاف كبير حول بنتر، بل يصفه البعض بأنه واحد من عمالقة الدراما العالمية، وهناك من يعتبره وريثا لشكسبير في عالمنا المعاصر. لكن الخلاف حول بنتر هو سياسي محض ويتحدد في مواقفه من الاحداث التي تعصف بعالمنا المعاصر. ففيما يرى فيه البعض انسانا صلبا في الدفاع عن حقوق الانسان ومعاداته للحرب، يرى فيه اخرون شخصا همه معاداة السياسة الاميركية على الصعيد الخارجي فحسب، لكون الولايات المتحدة دولة عظمى تريد فرض سيطرتها على بلدان اخرى، بالرغم من ان هذه البلدان كان يحكمها ديكتاتوريون، امثال صدام حسين في العراق، وميلوشيفيتش في يوغوسلافيا. لكن المنتقدين ينظرون الى جانب واحد في شخصية هارولد بنتر وهو موقفه الصارخ والمباشر من الحرب، فهو كما الكثيرون غيره، ينظر الى جانبها السلبي، وما يدفعه البشر فيها من ضريبة وما تخلفه من دمار، وان ثمة وسائل اخرى للقضاء على الانظمة الديكتاتورية. وكل هذه وجهات نظر سياسية خاضعة للنقاش، لكن الشيء الاساسي هنا هو الابداع. وهذا ما تنظر له الاكاديمية في تقييمها لاعمال الادباء الذين منحتهم جائزة نوبل.

بطبيعة الحال، ليس جديدا على الاكاديمية السويدية ان توجه لها الانتقادات فيما يتعلق باختياراتها. فمنذ البدء من منحها العام 1901، وكانت من نصيب الشاعر الفرنسي سيللي برودوم، تعرضت الاكاديمية الى انتقادات كثيرة، ذلك ان ثمة اوساطاً فرنسية وسويدية لم تر في برودوم اهلا لها، وفسر البعض حينها منح الجائزة بأنها انحياز لفرنسا التي كانت ترتبط مع السويد بعلاقة ملكية خاصة، حينما نصب الضابط الفرنسي المولد جان باتيستا وليا للعهد ومن ثم ملكا على العرش السويدي العام 1810 ليغير اسمه الى كارل يوهان الرابع عشر. وفي العام 1903 صوبت سهام النقد للاكاديمية بسبب اختيارها النرويجي بيورن شيرنه، في حين كان الدرامي النرويجي هنريك ابسن في مقدمة المرشحين، وهكذا، في اختياراتها لمن يفوز، نجد هنالك من هو غير راض، حتى من داخل الاكاديمية، لكن القرار يأتي بالتصويت. ويبدو أن اعضاء الاكاديمية السويدية، وهم منتخبون دائمون لا يتغيرون الا بموت احدهم، ورغم تبدلهم، خلال المائة عام ونيف المنصرمة، باتوا مقتنعين من ان ليس بمستطاعهم ارضاء الجميع. وتتنوع الاتهامات ضد الاكاديمية في ما يتعلق بمنح جائزة نوبل في الآداب، فهي توصف تارة بضعف الشعور الوطني، لقلة عدد السويديين الذين حصلوا على الجائزة، وتارة تنحو الاتهامات تجاه الانحياز السياسي، كما هو الحال في عدد من الاسماء التي منحت الجائزة في السنوات العشر الأخيرة، مثل الايطالي داريو فو عام 1997، والبرتغالي خوسيه ساراماغو الذي نال الجائزة العام 1998 حيث اتهمت الاكاديمية السويدية حينها بانحيازها الى الشيوعية، كون ساراماغو مازال يعمل في صفوف الحزب الشيوعي البرتغالي. وفي معرض انتقاد الفاتيكان لاختياره فائزا بجائزة نوبل، رد ساراماغو بالقول «انا شيوعي واكتب لعامة الناس، ولا اغير افكاري لا من اجل نوبل ولا غيرها». وفي العام 2001 عندما اعلن اسم البريطاني، الترينيدادي الاصل، ف، أس نايبول فائزا بجائزة نوبل، حيث تصادف هذا الاعلان بعد ايام من هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة، اثيرت زوبعة من الانتقادات ضد الاكاديمية من داخل السويد ومن البلدان العربية والاسلامية، وحتى بلدان اوروبية. اذ ان نايبول احد الكتاب المثيرين للجدل في ما يتعلق بمواقفه من الاديان، والاسلام، بشكل خاص. واتهمت الاكاديمية بانحيازها الى المتحاملين على الاسلام ومن يتهمونه بالارهاب، واستمرت السجالات حوله حتى بعد تسلمه الجائزة. وازدادت الانتقادات في العام الذي تلاه، حين منح المجري ايمره كرتس جائزة نوبل العام 2002 حيث اتهمت اوساط ثقافية عربية الاكاديمية بانحيازها الى اليهود على حساب ما يجري للفلسطينيين. اذ تعكس كتابات كيرتس معاناة اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، من خلال معايشاته في طفولته. وفي العامين الآخرين عادت الاتهامات تنصب على انحياز الاكاديمية السويدية الى اليسار والشيوعية والموقف من السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية. فحينما منحت الجائزة الى النمساوية الفريدا يلنيك العام الماضي، اتهمت الاكاديمية بانها منحت الشيوعية اروع ميدالية، كما وصفها احد الصحفيين البريطانيين. وعندما اعلن عن اسم البريطاني هارولد بنتر فائزا بالجائزة للعام 2005 اتهمت الاكاديمية بانحيازها لانصار معاداة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فهارولد بنتر معروف بمواقفه المعارضة للحرب الاميركية في البلقان، وهو احد الذين طالبوا بمحاكمة عادلة للرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، كما موقفه المعارض من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة في افغانستان ومن ثم العراق العام 2003. هذا الموقف الذي وصفه احد الصحفيين السويديين بأنه «معاداة رخيصة للسياسة الامريكية، لا تفرح سوى اليساريين وانصار البيئة المتعصبين»، وتمنى على بنتر ان يقول شيئا في كلمته التي سيلقيها في العاشر من ديسمبر، عند تسلمه الجائزة، بحق الانتخابات البرلمانية الحرة التي سيشهدها العراق. لكن هذا الصحفي، يشيد بمواقف اخرى لبنتر، مثل دفاعه عن الكتاب الاتراك السجناء، وينظر الى اعماله الابداعية بتقدير عال. وهذا ما تشير الاكاديمية السويدية اليه، من انها لا تنظر لمواقف الكاتب السياسية، بل الى ما يقدمه ابداعيا.

الاوساط الثقافية في العالم العربي تتابع وباهتمام جائزة نوبل في الآداب، وفي كل مرة تشحذ الاقلام، وغالبا ما تكون الكتابات في هذه المناسبة اتهامية، احيانا بشكل صارخ ولا يستند الى العلمية بصلة، الا ما ندر، حيث ثمة اقلام صحفية شابة متابعة، تضع الامور في نصابها، وهذا يأتي من القراءة لاعمال الفائزين وليس ضربا من الخيال المسكون بنظرية المؤامرة. شكوك بعض الاقلام في عالمنا العربي تأتي بالسليقة، حتى وان كان الكاتب الذي يفوز بجائزة نوبل عربيا. فعندما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل في الآداب العام 1988 لم تسلم الاكاديمية السويدية من اتهام بعض الاقلام العربية لها بان قرارها في منح نجيب محفوظ الجائزة جاء بضغط من اللوبي اليهودي، ذلك باعتبار محفوظ من الكتاب الذين أيدوا التطبيع مع اسرائيل.

لكن اغرب تعليل قرأته كان اولا بمناسبة منح جائزة نوبل الى الفريدا يلنيك العام الماضي وايضا منحها لهارولد بنتر العام الحالي، اذ يقول كاتب مرموق ان الفائزين نالا الجائزة بسبب صدام حسين، يلنيك لانها، وحسب كاتب المقال، كتبت رواية صورت فيها الطاغية ضحية للامبريالية، وهارولد بنتر وقف ضد الحرب الاميركية التي اسقطت الطاغية!!

وهنا أطرح التساؤل التالي: لماذا يتصور البعض بأن طاغية اسقط عن عرشه وبات ينتظر مصيرا بائساً، يستولي على عقول كبار استاذة الادب والفلسفة وعلماء اللغة الذين يشكلون بنية الاكاديمية السويدية الثمانية عشر، ليلهمهم تقييم من يفوز بجائزة نوبل؟

بالطبع لا احد يتوقع من ان الاكاديمية السويدية، وهي مكونة من بشر، أن يكونوا خالين من مواقف او ميول معينة، لكنني وحسب متابعتي الصحفية لكل ما يتعلق بجائزة نوبل ارى ان هؤلاء يشغلون كل وقتهم بالقراءة، فهذه مهمتهم الاساسية وهم نادرا جدا ما يحضرون فعالية ادبية ما، كما انهم في اعلانهم عن فوز احد بالجائزة مطالبون بتوضيح الدوافع وراء قرارهم. وهذا لا يعني ان ليس ثمة خلافات بين اعضاء الاكاديمية، بل ان خلافات كثيرة تنشب خلف كواليسها، لكن ما يجري لا يظهر الا بعد مرور نصف قرن عليه، بالرغم من ان بعض هذه الخلافات تطفو الى السطح احيانا، مثلما جرى قبل ايام من اعلان اسم الفائز بجائزة هذا العام، عندما اقدم البروفيسور كنوت آلنلوند على التصريح باستقالته من الاكاديمية بسبب منح جائزة العام الماضي الى النمساوية الفريدا يلنيك، لا لشيء الا لأنه رأى ومن خلال مطالعاته لكتاباتها بأنه كان هناك من استحق الجائزة اكثر منها. كما استقال في السابق اثنان من اعضاء الاكاديمية وهما شيشتين ايكمان ولارس غولينستين وذلك لعدم اتخاذ الاكاديمية السويدية موقفا سياسيا من قضية الكاتب سلمان رشدي وفتوى الخميني بقتله، حيث كانت الاكاديمية قد بررت ذلك بالتزامها بعدم التدخل في السياسة. فالخلاف إذاً، ليس على الموقف السياسي للمرشح او الفائز بجائزة نوبل، بل على اعماله الابداعية.