أمين معلوف يحتفل بباكورته الأوبرالية «الحب من بعيد»

تجريبات حديثة من فنلندا وإسبانيا تغري بالإنصات

TT

الأوبرا المعاصرة مثل الموسيقى المعاصرة تحتاج الى دربة أذن، والى خبرة بمستجدات الوعي الموسيقي على أكثر من صعيد، من التقنيات الى المضامين. ما كنت أحسب، انا الذي ألفت الأوبرا عبر تاريخها منذ مطلع القرن السابع عشر، اني سأستسيغ يوماً موجة التجريبات الحديثة في هذا الفن الدرامي الغنائي المنيع. ولكن رواد الحداثة من أمثال شوينبيرغ Schoenburg، بيرغ Berg، بنجامين برِتن Britten، ميسيان Messiaen، كانوا خير دليل يأخذ بيد أحدنا الى الإنجاز المعاصر. وكما بقيت ذائقتي حصينة في وجه ما اعتقده تجريبات لغوية وذهنية في الشعر، كذلك بقيت في وجه الإنجازات الأوبرالية التي تبدو لي معلقة في مشجب تقني، ذهني غاية في تعمد النشازات، وتعمد قهر قوى الانسان الواعية، المتطلعة الى مزيد من الفهم والإدراك. الأمر الذي نجده في أعمال ستوكهاوزن، بوليز وجون كيْج.

المحاولات المعاصرة التي وازنت بين جذور الماضي الأوبرالي والتطلع الى الجديد والتجريبي بقيت تُعنى بالآريا أو الأغنية، وباللحن، والهارموني والإيقاع. ولكن باجتهاد من يسعى الى مزيد من إمكانات التعبير الداخلي، عبر الخروقات والنشازات. آخر هذه الإصدارات عملان لموسيقيين جديدين من فنلندا وإسبانيا. أسمعهما للمرة الأولى، على أن للمؤلفيْن محاولات سابقة لم أصل اليها. العمل الأول هو للموسيقية كايجا سارياهو (مواليد1952)، بدأت في حقل التجريب الالكتروني، والكومبيوتر، والمسرح، ولكنها انصرفت للأوبرا في فترة متأخرة حين وضعت عملها «الحب من بعيد»(صدر على اسطوانة DVD عن دار Deutsche Grammaphon)، عن نص خيالي للروائي اللبناني الذي يكتب بالفرنسية أمين معلوف.

العمل يمتد لساعة ونصف الساعة، في خمسة فصول. يروي حكاية شاعر تروبادور يدعى جوفري من فرنسا القرن الثاني عشر، يحب كونتيسة من طرابلس، مستعينا بالخيال والحلم دون الرؤية. الحاج الوسيط الذي أوحى له بهذا الحب يأخذه بمركبه الى لقائها. والأوبرا رحلة شبه رمزية، أو شعرية، الى الحب المعرض للتلاشي، والى الحياة قرينة الموت. فالشاعر يموت بين يدي حلمه لحظة اللقاء. النص عميق الاختزال والإيحاء، والموسيقى امتداد يحيط كيانك بأكثر من جاذبية سحرية. وهو بهذه الميزة يذكر بأوبرا تريستان وايزولدا للألماني فاغنر. إلا أن الحب هنا نزوع روحي، في حين يبدو لدى فاغنر غرائزياً معتم اللون.

العمل الثاني للإسباني جون أمارغوس(مواليد 1950) بعنوان «يوريدّيتشي» (صدرت عن دار harmonia mundi). المؤلف واسع الإنتاج في حقل السينما والتلفزيون والمسرح، وله أعمال أوركسترالية، وفي موسيقى الغرفة، وأوبراه هذه هي الوحيدة، وضعها عام 2002 في مشاهد سبعة مع مقدمة وخاتمة، وحكايتها تعتمد أسطورة واسعة الشهرة هي حكاية يوريديتشي زوجة أورفيو، ملهم الشعر والموسيقى. يتوفاها القدر ويطمع أورفيو بسحر الغناء ان يستعيدها من عتمة العالم السُفلي الى الحياة. ويفعل، ولكنه يخسرها ثانية بسبب عدم امتثاله لشرط استعادتها. الأوبرا الجديدة تتحدث عن مغنية أوبرا مصابة بداء مميت، وتقوم بذات الوقت بدور يوريديتشي. هناك تداخل آخر في الحدث بين قائد الأوركسترا الذي يحبها وبين دور أورفيو المنقذ. ولكن أورفيو المعاصر لا يفكر إلا بنجاحه، وبمشاعر الغيرة من تعلق صديقته المغنية ببطل مسرح الدمى الخشبية. هذا التعلق ذو طابع رمزي. والأوبرا برمتها أكثر كثافة من أوبرا المؤلفة الفنلندية، ولكنها لا تقل عنها إمتاعاً وسحراً في النص الأدبي وفي النسيج الموسيقي.

كلا العملين يتأمل علاقة الحب بالموت، ولكن لصالح غزارة الحياة.