خوان غويتيسولو: نصف قرن من النبش عن المخالفات وفضحها

في الذكرى الخامسة والسبعين لميلاده

TT

يحتل خوان غويتيسولو (برشلونة، يناير 1931)، في مشهد الأدب العالمي الراهن، موقعا مرموقا كروائي وباحث وصحافي ملتزم. وليس من المبالغة القول انه من ذلك الصنف النادر من الكتاب الذين جعلوا الكتابة هاجسا وجوديا وخلقيا عميقا يتجاوز مجرد إبداع مجازات ومدن خيالية مأهولة أو البحث في قضايا الساعة. ربما لهذا السبب غدت حياته، في تمردها المتواصل على المحافظة المنافقة والانغلاق الثقافي، مركزا لفحص الأفكار المسبقة وسبر خرافاتها عن طريق مساءلة الذات بإلحاح. إن الكتابة عند خوان مشروع متنام يحفر الذاكرة الجماعية، ويستعيد هجانة الهوية التي تتبلور عندها آلام الكلمة: رحلة قاسية ضد النفس، وبحث لا هوادة فيه عن الآخر الكامن فيها.

رغم بلوغ خوان غويتيسولو الخامسة والسبعين من عمره، إلا أن ملامح وجهه ما زالت منطوية بحرص على آلام طفولة لم يستطع النسيان تبديدها. إنه لم يعش طفولته في ضنك، رغم بوار مصانع أبيه، بل كان، في نظر العديد من أترابه، محظوظا على الصعيد المادي. بيد أن جو الأسرة كان مرهقا من الناحية النفسية، بحيث كان أفرادها يعيشون وضعا خانقا، ويتبادلون فيما بينهم نفاقا طهرانيا يدعو إلى الدهشة. وسط هذه العتمة لم يكن هناك من شيء مضيء غير وجه الأم الصبوح، ومخيالها المثقف الذي هذبته قراءات لا تنتهي، ومحاولات كتابة لم يكتب لها النشر. غير أن مصرعها المفاجئ والمريع، إبان الحرب الأهلية، أغلق في وجه خوان كل الأبواب، وأتاح للفرانكوية الظافرة أن تطبق بثقلها الكاسح مقدمة عن الهوية الإسبانية صورة تتميز بنزوع هيمني، وتعتمد على قيم مسيحية «مطهرة» فقدت سياقها التاريخي.

في أواسط الخمسينات، داهمت خوان مشاعر الخزي والاختناق فقرر النفاذ بجلده. هكذا حل بباريس، بستان الثقافة الكونية الذي تخترق فضاءه أشجار سامقة تلقي بظلالها الوارفة على المشهد: سارتر، وسيمون دوبوفوار، وكامو، وبيكيت، وجان جينيه. هناك ينخرط الكاتب الإسباني الشاب في صفوف المثقفين اللاجئين مثله هربا من ديكتاتوريات مختلفة، ويغدو الطفل المدلل لأوساط النشر الفرنسية التي كانت، في ذلك الوقت، تتغذى من النزعات المتطرفة، وتغذيها بسلاسل من الكتب تجتر الفكر الماركسي وتنتقد الليبرالية الغربية في شتى مظاهرها. ويدعى ذات مساء إلى مأدبة عشاء فيتعرف على شخصيتين ستؤثران على حياته ونظرته إلى العالم بشكل عميق: مونيك لانج (1926 ـ 1996) التي كانت تعمل بمصلحة الترجمة لدى الناشر «غاليمار»، وجان جينيه (1910 ـ 1986). كانت مونيك حينئذ كاتبة روائية في الثلاثين من عمرها، لكنها كانت متفتحة بحيث تمكن خوان معها من التغلب على تحفظه الطبيعي إزاء الجنس الآخر. أما صاحب «يوميات لص» فقد مكّنه، أثناء مكاشفات قاسية، من مواجهة كافة الالتباسات التي تتآكل كيانه وتقف حاجزا بينه وبين التعبير عن حقيقته الوجودية بجلاء.

ذات يوم من أيام سنة 1963، يكتشف الكاتب في دورية إحصائية صادرة عن اليونيسكو، أنه أكثر الكتّاب الإسبان مقروئية بعد ثيرفانتيس ولوركا، فيُشدَه لذلك ويقرر تغيير مسار حياته بالانسحاب من عالمه السياسي المغلق، ومن حلقة النشر المحمومة المبددة للقوى. منذئذ شرع خوان في رحلة العودة إلى الذات محاولا جهد المستطاع الإفلات من صورته التي صنعتها مرآة النقد والإعلام الثقافي، باعتباره كاتبا يعبر عن إسبانيا ما بعد الحرب الأهلية. هكذا تحول الكاتب الذي يرتاد معارض الكتب الموسمية، ويحرص على الظهور في حفلات التوقيع، ولا يكف عن التدخل في مناقشات بيزنطية منقولة عبر الإذاعة والتلفزة، إلى كاتب منطو، يلوك هموم الإبداع، ويعلي من شأن العزلة الخلاقة. تلك هي الصورة التي رسمت معالمها سيرته الذاتية في جزأيها «الحِمَى الممنوع»، و«في ممالك الطوائف»: رحلة حقيقية نحو العُري الصوفي بحثا عن حميمية متحررة من أوهام المجتمع الإعلامي. من هنا، كانت إقامة خوان في حي «سانتيي» في باريس ـ حيث يتعايش اليهود والأكراد والعرب والفرنسيون ـ مفتاحا لفهم تاريخ بلاده وتفسير عوائق نهضتها وتجددها الثقافي. لقد نظر إلى ذلك اللغط المتناغم والمحتدم عن كثب، فاستوعبه على هيأة عودة إلى جذور إسبانيا ما قبل عصر التفتيش، حيث تدجنت الروافد الإسلامية واليهودية والمسيحية داخل فضاء مفتوح لا تحده اللغة ولا الدين ولا السلالة. واعتمادا على هذا الاكتشاف، الذي لعبت فيه تحليلات المؤرخ (أميريكو كاسترو) دورا حاسما، صاغ خوان غويتيسولو هوية خلقية تعتبر اليوم مفتاح معاركه الجمالية: ذلك أن عودته إلى قراءة آثار (فرناندو روخاس) و(راهب هيتا) و(يوحنّا الصليب) و(ثيرفانتيس) وغيرهم، لم تكن سعيا إلى بلوغ أصالة ماضوية متوهمة، وإنما عملية إحصاء مثابرة لعلامات حداثة تشبعت حتى النخاع بهجنة القرون الوسطى وتسامحها الثقافي. ومع أن خوان يرفض الانكفاء إلى الماضي، إلا أنه لا يكف عن الاعتراف بكونه اكتشف فيه حقيقة بعيدة الغور: وهي أن انحطاط ثقافة ما، يسير جنبا إلى جنب انطوائها على خصوصية مزعومة، أو تقوقعها داخل قيم متحجرة، وأن رهان انتشارها وحيويتها يتوافق دائما وتعدد الروافد الأجنبية التي تخترقها، فتغذيها وتخصبها. هكذا حظي المغرب في أدب خوان غويتيسولو وفكره، بأهمية بارزة كفضاء وقوة روحية. ففضلا عن نقده اللاذع لصورة المورو في الخيال الجمعي الإسباني ولدى المستشرقين، ودفاعه المدهش عن حقوق المغرب في الصحراء في كتابه «مشكلة الصحراء» (1978)، نجد أن أحداث رواية «دون خوليان» تجري في طنجة، بل إن بطلها هو قراءة معاصرة لحاكم سبتة (يوليان الغماري) الذي قيل إنه سلم مفاتيح الأندلس للمسلمين انتقاما لشرف ابنته من حاكم القوط، كما أن راوي «مقبرة» هو تجسيد أدبي متطور لذلك النوع من الرواة والقوالين الشعبيين الذين تكتظ بحلقاتهم ساحة جامع الفنا في مراكش. لكن أهمية المغرب هذه لم تكن لدى خوان معايشة لواقع آني، أو انجذابا فلكلوريا عابرا، وإنما وعي بالذات في سياق الإشكالات الكبرى التي ينطوي عليها عصرنا: إشكالات العلاقة بين الأنا والآخر، والوحدة والتعدد، والهوية والفرق، والعدالة والحرية.

انطلاقا من كل ذلك، وعلى مدى أكثر من نصف قرن من الكتابة، غدا خوان غويتيسولو اليوم تجسيدا لصورة المثقف المؤمن بأممية لا وطن لها، والمعادي للعولمة الضريرة ولكل المدافعين عن مصالح شخصية أو مهنية ضيقة. لقد فضح غويتيسولو في العديد من كتاباته القيم الرسمية الكاثوليكية التي قامت عليها إسبانيا في عهد فرانكو، كما انتقد فترة الانتقال الديموقراطي ونزعتها الأوروبية الساذجة. وهو يناضل حاليا عن الأقليات العرقية والثقافات المضطهدة، من دون أن يتوقف عن النبش لحظة في سلوكيات مواطنيه سعيا إلى تحييد مخلفات اللاتسامح وكراهية الأجنبي. في هذا الإطار يمكن اعتبار روبورتاجاته عن الانتفاضة وحالة اللاحرب واللاسلم في فلسطين، وعن سراييفو أيام الإبادة العرقية التي مارسها الصرب، وعن الحرب الأهلية في الجزائر، والحرب الشيشانية الظالمة، وتحقيقاته عن أوضاع الغجر في أوروبا، والعمال المغاربة المهاجرين في إسبانيا، ومقالاته عن المعنى الحقيقي للإرهاب ـ سياقات للبحث عن الحقيقة المغيبة في الإعلام الغربي الموجه والمنحاز، ومقاومات لدحر الأنا المنغلقة على أكاذيبها عن طريق اكتشاف حقيقة الآخر واستلهام قيمه الغيرية.

لقد ترجمت إلى العربية مؤلفات خوان غويتيسولو المتمحورة حول عدد من مناطق النزاع في العالم، وكذا سرديات رحلاته إلى مصر وإيران وتركيا، فضلا عن كتابه حول الاستشراق الإسباني، وأربع من أكثر رواياته المتأخرة دلالة، بالإضافة إلى كتاب يضم مقالات مختارة له غايته في إبراز تنوع تدخلاته على أصعدة الذاكرة، والمقاربة الإنسانية، والواقع السياسي الدولي، والإنتاج الأدبي. يتعلق الأمر بكتب ترسم، في مجموعها، ملامح كاتب ملتزم بقضايا العصر، لا يتردد في الوقوف ضد التيار، ويعتبر كتابته رهانا تنويريا، ومحكا لاختبار مدى التطابق المخصب بين الكتابة والوجود.

* كاتب مغربي