الإصلاح والخطاب الأميركي المحكوم بالظرفية

الجابري يدعو إلى إعادة بناء الفكر العربي انطلاقا من الثقافة الإسلامية

TT

أصبحت قضية الإصلاح ملحة في الفكر العربي بمختلف منازعه وتياراته، بما في ذلك الفكر الرسمي، الذي يمثل وجهة نظر السلطة. وإذا كان البعض من الزعماء قد رفض إملاء الإصلاح كما طرحه الرئيس بوش، إلا انه لم يرفض فكرته، لا بل ان بعضهم يرى أن في الإصلاح فرصة يجب الاستفادة منها، والانخراط في عمليتها

يتناول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه الجديد «في نقد الحاجة إلى الإصلاح»، موضوعات سبق أن أبدى عدد من الباحثين رأيهم بها، إذ انها المواضيع نفسها، في مضمونها العام، التي لا تزال تواجه العالم العربي منذ القرن التاسع عشر. لكنها في كل مرحلة تكتسي أبعادا جديدة وصيغا متنوعة، الشيء الذي يستلزم التفكير فيها من وقت إلى آخر، لإعادة بناء تصور جديد لها وفق مقتضيات التطورات، والتعاطي معها برؤية هي «التحيين»، أي جعل المسألة في وضع مناسب للتطور الحاصل حين طرحها.

يرى المؤلف أن الدعوة الاميركية إلى الإصلاح في الشرق الأوسط، التي أصبحت اليوم أوروبية أيضا، محكومة بالظرفية التي أملتها، وبالقضية التي أملت الظرفية. وهي أساسا ما يطلق عليه الخطاب الأميركي اسم الإرهاب، والمقصود بالدرجة الأولى ما تقوم به جماعات ترفع شعار الإسلام من تشويش يمس المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. والدعوة إلى الإصلاح هو ما تسميه الحرب على الإرهاب.

من هذا المنظار يلزم الإصلاح الأميركي في الشرق الأوسط أمران:

أولا: نقل الصراع الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الإرهاب إلى داخل كل دولة عربية وإسلامية، وفرض تجفيف ما تعتبره ينابيع الإرهاب الفكرية والمالية، وقبل كل شيء تغيير المناهج التعليمية وفرض الرقابة على المؤسسات الخيرية التي يقال انها تدعم الإرهاب.

ثانيا: ترى أميركا أن مطالبة الحكومات العربية والإسلامية بالانخراط في ما تسميه الإصلاح سيشعل حربا أهلية في كل بلد من بلدان المنطقة، لأن قضية الإصلاح هي قضية الفئات التي تعارض الوضع اللاديمقراطي القائم وتضعها في وضعية حرجة، فهي إذا انخرطت في الإصلاح الذي تنادي به أميركا وجدت نفسها تتحالف مع حكوماتها غير الديمقراطية. وإذا عارضت الإصلاح فإنها تجد نفسها حليفة للقوى التي ينسب لها الإرهاب. هكذا يرى المؤلف أن ردود الفعل المختلفة التي أثارتها مادة الإصلاح الأميركية ليست مجرد ردود سجالية، كما تنقل عبر وسائل الإعلام الراهنة التي تعاني فائضا في الألفاظ وشحّاً في المعنى، ذلك لأن الإفساد قد بدأ، ليس فقط إفساد ما كان موجودا من صلاح قائم، بل أيضاً بإرباك وطمس الطريق إلى الإصلاح الحقيقي، وهو ما يدعو إلى إلغاء الموقف المبتسر المعلن «مع» أو «ضد»، بل الدعوة إلى نقد الحاجة إلى الإصلاح.

إن هذا المسلك في التفكير والعمل يجعل الإصلاح يتحدد دوما للآخر، فالموقف السلفي يتحدد ليس فقط بالدعوة إلى العودة إلى سيرة الخلفاء الراشدين، بل أيضا بمعاداة جميع الخصوم السياسيين والمذهبيين الذين عاداهم دعاة السلفية منذ الفتنة الكبرى حتى اليوم. وهكذا يمتص الصراع مع خصوم الماضي قدرا كبيرا من الجانب الإصلاحي في الحركة السلفية، وذلك على حساب الجوانب التي تهتم بمشاكل الحاضر والمستقبل.

إذا نظرنا إلى الدعوة الإصلاحية التي قام بها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو لوجدناها دعوة سياسية براغماتية، وكجميع الدعوات السياسية فإنه من الممكن أن نجد لها مبررات معقولة بالرجوع إلى الظرفية التي أملتها. وبقطع النظر عن أن الإصلاح في هذه الدعوة لا يعني الإتيان بشيء جديد، بل يعني العودة إلى ما كان عليه الحال قبل الفساد، فإن ما يجب أن يشد اهتمامنا هو ربط الدين بالسياسة. فالعلاج الذي اقترحته الدعوة تركز حول نقاط ثلاث: رجوع الأمة إلى قواعدها، بمعنى الولادة الجديدة، والتوظيف السياسي للدين، واستبعاده الإصلاح الديني، وعدم طرح مشروع بديل.

أما التيار الليبرالي والحداثي في الفكر العربي الحديث، فيرى المؤلف أنه يضع نفسه بديلا عن التيار السلفي ويعتمد على منجزات الفكر العالمي الذي جعل من التراث اليوناني والروماني المتميز باهتمامه بشؤون الدنيا والإنسان مرتكزه. وقد تأثر هؤلاء بترجمة القرآن الذي قامت به البابوية لتحارب الإسلام فأفرزت ترجمته جيلا من المثقفين عرفوا بالإنسانيين لأنهم وجدوا في القرآن حرية للإنسان لم تكن تتيحها الكنيسة، وكان من إفرازاتها الدعوة اللوثرية، التي أدّت إلى قيام المذهب البروتستانتي، إضافة إلى الدور الهام الذي كان لترجمة معاني القرآن إلى اللاتينية، وهو الدور الذي تعكسه تكرار الطبعات والتلخيصات التي عملت لها وانتشارها السريع في جميع أنحاء أوروبا. غير أن الإصلاح الديني الذي قام به لوثر لم يكن البداية، بل كان نتيجة حركة فكرية عرفت بحركة «الإنسانيين»، وهذه بدورها كانت استمرارا لتيار فكري تجديدي ظهر في القرن الثالث عشر الميلادي باسم «الرشدية اللاتينية»، أي أنه انتسب صراحة لابن رشد. فقد استوحى لوثر العقيدة الإسلامية فأسقط الخطيئة الأصلية بتوبة آدم، ونفى كل وساطة بين الله والإنسان، وأكد أن الإيمان هو الرابطة التي تربط بين الله والمؤمنين، ورفض المؤسسة الكهنوتية.

وفي الجانب اللغوي، يرى المؤلف أن اللغة التي لا تجد في متنها مصطلحات وأسماء لأشياء أو لتصورات يشكل ذلك دليلا على غيابها في المجال الحضاري الثقافي. من ذلك مثلا ما نعبر عنه في الخطاب العربي المعاصر بـ «العلمانية»، فهذا اللفظ ليس فيه من اللغة العربية إلا الصياغة، أما على مستوى الاشتقاق، فمخترعو هذا اللفظ الذي يجري مجرى الاصطلاح يلحون على أنه ليس مشتقاً من العِلْم وإنما من العَلْم، وهو عندهم مرادف للفظ العالم، وبذلك تكون العَلمانية نسبة إلى العالم، أي الدنيا. وإذا قصرنا المعنى على العالم الدنيوي فلا يفيد ذلك شيئاً محدداً في مجال التداول العربي، وكل ما في الأمر هو أننا أمام تحايل لغوي لتحميل هذا اللفظ معنى لا مرجعية له. أما في اللاتينية فهو مشتق من لفظ LAOS أي الشعب، وقد تخصص في قسم من الشعب وبالتالي لا يدل على الشعب بإطلاق، بل على الشعب مقابل الكاهن CLERC.

شعار العلمانية لا يلائم التجربة التاريخية والدينية العربية الإسلامية. وقد طرح، أول ما طرح، في المشرق العربي، في منتصف القرن التاسع عشر، استجابة لطارئ، وكان مفكرون مسيحيون من الشام هم الذين طرحوه، وأرادوا بالعلمانية اتقاء شر الطائفية والتخفيف من آثار الفتن، فالتقوا مع مفكرين وسياسيين عرب آخرين، حينما حملوا شعار الاستقلال عن الترك. في شعار واحد وتيار واحد هو شعار العروبة وتيار القومية العربية. إذا نستطيع القول ان العلمانية طرحت في العالم العربي في القرنين الماضيين طرحاً مزيفاً أريد منها أن تعبر عن حاجات معينة بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات. فالحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى ممارسة العقلانية السياسية هي مطالب ضرورية، لكنها تفتقد مشروعيتها عندما يعبر عنها بشعار ملتبس كشعار العلمانية، لذا يجب التمسك بمبدأي الديمقراطية والعقلانية وإسقاط شعار العلمانية..

يرى المؤلف أن ما يحول دوننا والديمقراطية عوائق بنيوية، فالمجتمع المدني تقوده أساساً نخبة مدينية، صنيعة الموروث الحضاري للمجتمع ككل، تفرض هيمنتها الاقتصادية والثقافية. ومثل هذه النخبة غير موجودة في أقطار العالم العربي. قد تكون هناك نخبة مدينية في هذا القطر أو ذاك تصف نفسها بالمجتمع المدني لكنها لا تمارس ما هو ضروري من الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتتحول فعلاً إلى نخبة مدينية قادرة على القيام بدورها التاريخي كقاطرة للإصلاح والتغيير في المجتمع.

قيام هذه النخبة يقف دونها النمط الاقتصادي السائد الذي تهيمن عليه الدولة والذي يغلب عليه معطلان: الأول، الإنتاج الزراعي الذي يكرس الطابع البدوي القروي في المجتمع. والثاني، الدخل الذي لا يأتي من مسلسل عملية الإنتاج، بل من عائدات النفط والعمال المهاجرين وعائدات السياحة، مما يضع جلّ اقتصاديات الأقطار العربية تحت تصرف الدولة.

يلخص الكاتب إشكالية الإصلاح في العالم العربي بأنها إشكالية وضْع يراد له أن يعيش الحداثة من دون أن يمر بمرحلة التحديث، ووضْع مشحون بعوائق بنيوية تحول دون قيام مجتمع مدني، وبالتالي تجهض التحول إلى الديمقراطية أو تفرغها من مضمونها إذا ما حصلت بهذه الصورة أو تلك.

في المحصلة، يرى المؤلف أن الإسلام هو المكون الحضاري للوجود العربي، المسلم وغير المسلم. لذلك علينا إحلال الإسلام المكانة التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر العربي من المحيط إلى الخليج. وهذه العملية تقع متطلباتها جميعاً على مستوى الداخل. أما «الخارج»، فالمطلوب منه ليس مجرد الضغط على الحكومات لتحقيق تلك المتطلبات، بل المطلوب هو كبح جماح الأطماع الامبريالية في تفكيره وسلوكه أولا.