الإسلام السياسي والعلمانية.. والفرق بين الدين والسياسة

غالب بن شيخ يكتب عن تداخل النظم الدينية مع المجال السياسي وتسييس النظم العقائدية

TT

في كتابه الجديد يعرض غالب بن شيخ، المتخصص في الإسلام ومقدم برنامج «إسلام» على القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية (الحكومية)، لقضية تثير جدلاً مستمراً خاصة في فرنسا وهي الإسلام والعلمانية مفنداً أطروحة (يقول بها غربيون وإسلاميون) عدم تطابق الإسلام مع العلمانية. ويدافع عن العلمانية وعن ضرورة تبنيها منتقداً بشدة أطروحات الإسلاميين. وهو يفكك الخطاب الديني عموماً وخطاب الإسلاميين خصوصاً، من أجل إعادة بناء خطاب إسلامي (نسبة إلى الإسلام) حداثي يستند إلى المبادئ الإنسانية الإسلامية وإلى المبادئ الإنسانية الكونية لإقامة مجتمع علماني على أساس الفصل بين المقدس والمدنس واحترام حرية المعتقد والحريات السياسية الأساسية

يرى المؤلف غالب بن شيخ في كتابه العلمانية بالنسبة إلى القرآن، إن تداخل النظم الدينية مع المجال السياسي وتسييس النظم العقائدية من أحد المشاكل الكبرى التي تواجهها المجتمعات الإنسانية. «والمخرج يكمن في انفصال الديني عن السياسي في تنظيم المدينة». فالتقدم يحدث بالفصل بينهما. وعكس المعتقدات السائدة والأفكار التي يحاول الإسلاميون تسويقها فإن فكر الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية قد تم تطويره في السياق الإسلامي المعاصر. فغداة إلغاء أتاتورك الخلافة الإسلامية، أراد علي عبد الرازق أن يبني وعياً إسلامياً يتماشى وروح العصر، إذ أحدث عبر كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، قطيعة فيما يخص التنظير للعلاقة بين الدين والسياسة، قطيعة تخص تصور السلطة في السياق الإسلامي. يفرق عبد الرازق بجلاء بين المقدس والمدنس معتبراً أنه لا مبرر للتمسك بالخلافة لأن ممأسستها لا تستند إلى أي أصل ديني أو شرعي. فهي لم ترد لا في القرآن ولا في السنة. ويقول المؤلف إن المشكلة في رفض أفكار عبد الرازق تعود إلى العجز عن التأقلم الذي يرجع بدوره إلى العمل على التشبث بالمعطيات المفهومية التي تجاوزها الزمن. وامتداداً للهجوم المحافظ على عبد الرازق جاء فكر الأخوان المسلمين ليعارض أطروحة عبد الرازق معتبراً أن الإسلام دين ودولة.

ينتقد المؤلف الإسلاميين عموماً لتقديسهم الخلافة ولتقديمهم الإسلام كنظام قائم بحد ذاته، مشدداً على أن الله سبحانه وتعالى ترك المجال واسعاً للبشر لتسيير شؤون حياتهم ليبتكروا سبلاً جديدة تتماشى مع تطور مجتمعاتهم.وليس صدفة أو عبثاً أن الرسول الكريم لم يفصل في أمر خلافته قبل موته، وحتى في حجة الوداع لم يتطرق إلى أمر خلافته، لأنه احتراماً لحرية البشر لم يفرض عليهم أي شكل للحكم. فالمؤمنون أدرى بشؤونهم. فهو لم يترك وصية نبوية في هذا الشأن كما أنه لم يترك ولداً يخلفه، لذا فلا سلطة دينية بعده. إن هذا الصمت جاء متطابقاً مع الوحي الإلهي الذي لم يتكلم عن السياسة. وهو متطابق مع الآية القرآنية «وأمرهم شورى بينهم»، التي يستخدمها دعاة العلمانية والإسلاميون على حد السواء. ويقول إنه يفهم من هذه الآية أن الله فوض البشر تسيير شؤونهم بالحوار والتشاور، كما يفهم منها أيضاً أنه بحكم هذا التفويض، لسنا بحاجة للرجوع إلى هذه الآية أو لغيرها لدعم الفصل بين الدنيوي والديني «لإقامة العلمانية». إن تسيير شؤون المدينة عملية محايدة وبشرية.

يؤكد المؤلف على تمييز القرآن بين المقدس والمدنس كما يدعو إلى اجتهاد جديد في الوسط الإسلامي على طريقة ما حدث في الوسط المسيحي الكاثوليكي، اجتهاد يضع بوضوح الفرق بين الدين والسياسة. ويعود للمسلمين الصالحين والصادقين أن يرفضوا تسييس دينهم وأن يطالبوا بوضوح بنظام فصل بين السلطتين الزمنية والدينية. ويرى أنه لم يكن هناك سبب يجعل الوحي القرآني يتحدث عن هذا الفصل أو أن يؤكد بحكم غياب الإشارة إليه على تداخل البعدين، بل أن القرآن الكريم ترك الحرية للبشر لاختيار نظامهم السياسي. بيد أن غياب التأكيد المزدوج على الفصل بوضوح والتداخل فسح المجال للتلاعب والتوظيف. لكن الحقيقة أنه لا دخل للدين في السياسة، كما أنه لا يجب أن ينقاد الدين للسياسة، إذ لا يمكن أن يختزل القرآن في دستور لدولة إسلامية مزعومة.

استناداً إلى بعض الآيات القرآنية، يفند الكاتب فرضية عدم تطابق الإسلام مع العلمانية مؤكداً على حرية الحركة والمبادرة التي تركها الإسلام للمسلمين لتسيير أمورهم والعمل بالفصل بين السلطتين الدينية والمدنية. وعليه فالحكم يجب أن يكون حكم البشر على أساس الديمقراطية والسلطة العلمانية. ويدعو المؤلف المسلمين إلى ضرورة رفع القداسة عن التراث الفقهي وعدم التوقف عنده والأخذ به كما هو، وإنما الاستفادة منه لتحديثه وتطويره والتفكير في أساليب جديدة لتسيير شؤونهم، ويشدد على البناء العلماني داخل المجتمعات المسلمة وعلى أهمية القانون الوضعي وضمان حرية المعتقد والحرية السياسية، على أساس أن لا إكراه في الدين.

ينتقد الكاتب فكرة عدم تطابق الإسلام مع العلمانية قائلاًً أن العلمانية بحكم طبيعتها هي مبدأ حياد. ويتساءل كيف يمكن القول بعدم تطابق مبدأ محايد مع دين معين؟ منذ متى يتعارض «المحايد» مع أي شيء خاصة وأنه يمتنع عن أي انحياز. إن العلمانية نمط للعيش سوياً في مجتمع تعددي، فهي لا تريد أن تحل محل الأيديولوجيات الموجودة أو أن تكون بجانبها، وإنما تشكل بحد ذاتها مكان التقاء ونقاش دون أن تكون طرفاً معنياً، كما أنها ليست ضد الديانات بل تتجاوزها مشكلة منتدى للحوار بين مختلف أتباع الديانات. ويتحدث الكاتب عن «علمانية عضوية» ينفرد بها الإسلام والمتمثلة في غياب سلطة دينية تتوسط العلاقة بين المؤمن وخالقه، التي هي علاقة مباشرة لا وسيط فيها. لكن من المفارقة أن غياب هذا الوسيط فسح المجال لتوظيف الدين في السياسة خدمة للسلطة في العالم الإسلامي لحجب الرؤى عن غياب الديمقراطية وعن افتقار الأنظمة الحاكمة للشرعية.

ينتقد المؤلف وضع المرأة في العالم الإسلامي داعياً إلى مراجعة عميقة للفكر الإسلامي بخصوص وضعها في المجتمع في إطار علماني، والاهتمام بالتربية لأنها عماد ومستقبل أي مجتمع. ويتطرق إلى عدة قضايا كالمساواة بين المرأة والرجل، شهادة المرأة، تعدد الزوجات (الذي يقول ان النصوص القرآنية جعلته غير قابل للتحقيق). ويؤكد على أهمية المساواة الجنسية، ويفند الأطروحة القائلة بعدم جواز شهادة المرأة (شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد). ويرى أن دعاتها أغفلوا خصوصية السياق القرآني الذي نزلت فيه الآية التي يستندون إليها، ويستشهد بمواقف ابن قيم الجوزية وابن حنبل وبعدم تشكيك المسلمين قديماً وحديثاً في الأحاديث النبوية التي روتها نساء. واستناداً لآيات قرآنية عديدة يقول إن المكانة التي خص بها النص القرآني المرأة بعيدة عن الوضع المتردي الراهن. ويرى أن «المساواة الأنطولوجية» الواردة في القرآن تظهر كقوام للقانون الوضعي، على أن يستفيد التشريع الوضعي من الخطوط العريضة التي جاء بها الدين لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات بين البشر بعلمنتها. إلا أن العملية تواجه تردد ورفض الأوساط الدينية التقليدية والمحافظة المعارضة لتحرير المرأة. وفي رأيه يكون الخروج من الأزمة والتحرر من هذه الأوساط باتباع تحليلات «مفكرين مستنيرين وتعاليم ساسة كاريزميين» مثل قاسم أمين، ومنصور فهمي، وطه حسين، وسعد زغلول، بل وخاصة درب المعنيات بالأمر أولاً، أي النساء مثل هدى شعراوي، وسيزا نبراوي، ودرية شفيق، كما يكون بالتنبه للسياق التاريخي، السياسي والاجتماعي ليس فقط للوحي النبوي بل وكذلك للتراث الفقهي. ويستشهد هنا بالإمام الشافعي الذي لما كان في العراق يشرع على طريقة أهل بلاد ما بين الرافدين، وفي مصر يشرع على طريقة المصريين. هذا يعني أنه يأخذ في عين الاعتبار بالقانون العرفي لما كان يشرع، حتى وإن كان تشريعه مستمداً من القرآن. بيد أنه تم نسيان هذا التراث الثري والنقاشات الفكرية في الإسلام التي عرفتها عصور ازدهار الحضارة الإسلامية. ولذا فعلى المثقفين المسلمين استرداد هذا التراث ليس لإعادة إنتاجه كما هو وإنما لبناء فكر للحاضر يتبنى أيضاً إسهامات الحداثة ومنافع التقدم.

يقول المؤلف إن الحجاب ليس خاصية إسلامية بل عرف عند أمم وديانات أخرى قبل الإسلام، وإنه قرآنياً ليس فرضاً، بل جاء في سياق الخصوصية الاجتماعية لمجتمع عرب شبه الجزيرة لا سيما في مكة ثم المدينة. فلا شيء في القرآن أو في السنة يجعله فرضاً على النساء، كما أنه ليس من الأركان الخمسة للإسلام. وعليه فعكس ما يذهب إليه الإسلاميون، فإن عدم ارتدائه لا يقلل بشيء من إسلام من لا ترديه. ويضيف لماذا تم رفع الحجاب إلى مصاف فرض مطلق بينما لا يطالب أحد بأمر حق النساء في الميراث مثلاً، متسائلاً عن هذه الانتقائية، رغم تفسيره لمختلف دوافع ارتداء الفتيات في فرنسا للحجاب، فإن المؤلف ينتقد الحجاب ويقول إنه بغض النظر عن الاحترام المطلق للحريات الأساسية، فإننا ننتظر ممن يتبنون مثل هذا الخيار بأن يقبلوا بأنه ليس الخيار الوحيد الممكن. ويضيف أن المهم هو معرفة إلى أي مدى يمكن لخيار كهذا أن يخفي وراءه مشروعاً سياسياً معادياً للمساواة الجنسية. ويعتبر أن حماية المواطنين من رضاهم الخاص، الواعي أو غير الواعي، على الانقياد مسؤولية كبيرة تعود إلى الطبقة السياسية والمجتمع المدني في دولة ديمقراطية.

يعتبر هذا الكتاب من أحسن ما كتب حول الموضوع في فرنسا التي تعرف جدالاً ساخناً بشأن الإسلام عموماً والعلمانية والحجاب خصوصاً (خاصة مع حظر الحجاب في المدارس العمومية ـ من الصف الابتدائي إلى الثانوي). فهو لا يندرج لا ضمن أدبيات المواجهة ولا التسويق ونكران الذات (نقصد هنا بعض الأقلام المسلمة أو العربية الأصل التي أصبحت أكثر ملكية من الملك بمعنى أنها تهاجم بني جلدتها أكثر مما يفعل الفرنسيون)، وإنما يندرج ضمن صنف جديد من الأدبيات تعمل على تفكيك الخطاب الديني الإسلامي (نسبة للإسلاميين) السائد وخطاب (الغربيين) دعاة المواجهة القائلين بعدم تطابق الإسلام مع العلمانية ومع أشكال الحكم الحديث، يمكن تسميتها بأدبيات التوفيق (مع الغلبة للحداثة). وقد وفق هذا النص في الحفاظ على هذا التوازن الحساس بين مستلزمات العقيدة ومتطلبات العصر، معتمداً على النص القرآني والسنة لتأكيد إمكانية وضرورة الفصل بين الديني والدنيوي، والأخذ بالتراث للسير قدماً نحو الحداثة وليس تقليده حرفياً.

ربما ما يعاب على هذا الكتاب، ويعي مؤلفه جيداً الأمر، هو اعتماده على النص القرآني للدفاع عن العلمانية. بمعنى أنه يوظف أيضاً الدين لكن للمطالبة بنقيض ما يطالب به الطرف الآخر ـ أي الإسلاميين ـ بتوظيفهم الإسلام. وهنا تكمن محنة المسلم اليوم، فهو أمام قراءتين متعارضتين للنص القرآني، كلتاهما تقول بأنها على صواب، ولا زلنا نعيش حرب التفاسي. الخروج من هذه الحلقة المفرغة يكمن ربما في إجماع على مخرج يكون فيه الاحتكام للعقل وللعقل فقط هو سيد الموقف لضمان كل الحريات، لأنه حتى العلمانية لما طبقت في العالم الإسلامي أنجبت ديكتاتورية (تركيا). المشكلة ليست في النموذج وإنما في كيفية تطبيقه.