العرب يحبون المسرح لكنهم لم يحتملوا جرعته الزائدة في التأورب

ماذا فعل بنا مارون النقاش؟

TT

هل يمكن للمسرح العربي الذي عمره 150 عاما، أن يغيّر من جلده «المستورد» ويعود الى الطقوس والفنون الشعبية القديمة، ليستلهم منها مسرحا يحمل خصوصيته؟ هل هي دعوة لتأصيل الهوية في ظل العولمة الكاسحة، خاصة أن الطقوس الشعبية لم تدخل المسرح، كما أنها لم تدخل المتحف بعد، أم هي دعوة للانغلاق على الذات؟! وما هي الخيارات المتبقية اليوم لإنقاذ المسرح في العالم العربي من الموت بعد دخوله غيبوبة تنذر بشر مستطير.

«مسرح أم محفل» هاتان الكلمتان كانتا محور نقاش وجدل دار بين المشاركين في مؤتمر عقد مؤخرا في الخرطوم، بعنوان «الطقوس والاحتفاليات والعروض المسرحية»، شارك فيه المختصون بالمسرح والدراما من عدة دول. فكلمة مسرح مرتبطة ذهنيا بشكل المسرح الأوروبي أو الإيطالى، على وجه الخصوص، الذي بات مسيطرا بأدواته على شكل المسرح، في كل دول العالم: من نص درامي، مؤدين، خشبة مسرح، وفصول. اما كلمة «محفل» فيقترح إطلاقها على الطقوس الأنثربولوجية، التي تعكس المفهوم المسرحي العربي الخاص خارج النموذج الغربي، ويقصد بذلك الطقوس التي تشمل الزار، واحتفاليات الطرق الصوفية والتعازي الشيعية والعرس والكجور ورقصة الكمبلا ورقصة الحرب في غرب السودان، على سبيل المثال، وغيرها من الطقوس العديدة المعروفة في الدول العربية.

كان هدف المؤتمر أن يقيم حوارا ويستفيد من تجارب الآخرين. ومن ضمن المواضيع التي نوقشت، مسألة استلهام الطقوس والاحتفالات القديمة لعملية «تمسرح»، لتجديد دماء المسرح العربي وإيجاد تقاطعات مع الانثربولوجيا.

مسرحنا المغترب

سيطر النموذج الغربي للمسرح، الذي اقتبسه اللبناني مارون النقاش عند زيارته لإيطاليا عام 1848 وجاء به للعالم العربي، ومنذ ذلك الحين أصبح هو النموذج الأمثل والصحيح للمسرح، لاغيا كل الطقوس والفنون الشعبية وتجلياتها والأداء السردي والشفاهي، وكان دمارا للمسارح الأصلية، التي كانت موجودة ومؤثرة وتحتوي على أدوات خاصة بها «كالأقنعة والسحر والدراما والتقمص أو الجذب والبخور.. إلخ». هذه على الأقل هي وجهة نظر بعض المتخصصين في المسرح. فهل يمكن تطوير تلك الطقوس، أو على الأقل تأصيلها والاحتفاظ بها جنبا الى جنب مع المسرح الغربي؟

تقول د. نهاد صليحة، رئيسة سابقة لأكاديمية الفنون بالقاهرة، في حديث لها مع «الشرق الأوسط»، في الستينات كانت هناك دعوة مشابهة في مصر، لخلق مسرح مصري أصيل نادى بها يوسف إدريس، وحاول أن يطبقها من خلال مسرحية «الفرافير»، ولكن هذا الشكل تم تكراره، لدرجة أنه أصبح مملا وأشبه بكليشيه.

وصار المتفرج يتوقع سلفاً، ما الذي سيراه من أراجوز وخيال ظل ..إلخ، أرى أن النقاش يجب أن يتناول كيفية استلهام الطقوس قبل الوقوع في قبضة قالب واحد وشكل جامد يقتل الإبداع.

وتضيف نهاد صليحة قائلة: «المسرح لا تقوم له قائمة من دون حوار وتفاعل واستكشاف للتقاليد والطقوس المختلفة، أنا أرى أن المسرح الأوروبي استفاد من المسرح الإيراني والهندي والشرق آسيوي، وعلى رأسهم بيرتول بريشت، وقبلهم الشاعر الآيرلندي و.ب. ييتس، الذي أسس المسرح القومي الايرلندي، عندما كان يبحث عن مسرح آيرلندي له خصوصيته، ليؤكد هوية ايرلندية مختلفة، وكانت أهم مصادر استلهامه، رقصات مسرح جزيرة بالي الهندية، التي يمتزح فيها الشعر بالغناء، وتقترب من الحالة الروحية. ويمكن للمسرحي أن يستعمل النماذج والقوالب التجريبية الغربية والأشكال الجديدة، نحن لا نحجر على الفنان ولا نطالب بالمنع أو الإقصاء أو نفي أنواع أخرى من المسرح، نحن نرى هذه الدعوة كنوع من الانغلاق على الذات، ورفض لعملية التفاعل والتهجين الثقافي».

ويؤيدها د. عادل حربي رئيس مسرح الفنون الشعبية في الخرطوم، قائلا «لقد كان الغربيون أكثر ذكاء ونجحوا في توظيف اليوجا الهندية، لخلق عرض مسرحي، كما تبنوا العديد من الثقافات لتطوير المسرح، ولم يأخذوا الطقوس كما هي، بل ما وراء تلك الطقوس».

الصديقي المنقذ الحقيقي

هناك من يرى أن تجربة استخدام الطقوس طبقت سابقا لمرات قليلة ولاقت نجاحا، إلا أنها توقفت، فتقول د. لميس عماري أستاذة في قسم المسرح في جامعة برلين، وهي عراقية الأصل، في حديث لها لـ«الشرق الأوسط»، لقد دخلت المسارح العربية العلبة الإيطالية ولم تخرج منها، بل 90% منها يمارس نفس النموذج الذي استنفد طاقته. لقد أحيا الصدّيقي من المغرب التراث في المسرح، وفي مسرحية «البعد السابع»، قدم مسرحا حديثا عن طريق البناء الهيكلي للطقوس العيساوية. فيبدأ المشهد وهو يرينا كيف يسأل الطفل أسئلة غير طبيعية، فيتصور الناس من حوله أن الجن دخل رأسه، فيذهبون به الى الشيخ لإخراج إبليس، وهنا يبدأ الشيخ ضربه، ولكن قدمت تلك العروض برقص وخلفيات مختلفة، هذا في رأيي مسرح حديث. فلم ينقل الصدّيقي الطقوس كما هي كي لا تصبح documentary ، وهذا هو النموذج الذى أريد أن يقتدي به الشباب. كما ان هناك community theatre، وهو مسرح الجماعة، الذي نشأ في القرن العشرين في المجتمعات الصغيرة المحرومة من المسرح. فيذهب مخرج ومؤلف ويعيشان لمدة سنة، على سبيل المثال، ويكتبان نصا من تاريخ وتراث القرية، ثم يشارك كل أهل القرية في التمثيل، فيصبح المسرح من وإلى الناس، وقد طبقه مسرحيون جزائريون».

وتضيف د. لميس قائلة «بيتر بروك يقول يكفيني أن ألاحظ أحدا يعبر الشارع وشخصا آخر يراقبه، كي اعتبر ما أراه مسرحاً، الى هذه الحدود وصل الفكر الأوروبي الحديث والواسع عن المسرح. لذا أرى أن كلمة «محفل» هي اصطلاح جديد جميل يبعدنا عن ذهنية المسرح الإيطالي».

وكان للدكتور سعد يوسف رأي مشابه في مقاربته للمسرح السوداني، الذي يفضل أن يسميه المسرح في السودان قائلا: «إن المسرح السوداني، وعلى سبيل المثال، الذكر ورقص العروس ورقصة الحرب عند قبيلة الشلك والزار، له خصوصية كان يمكن تطويرها. فهو مسرح دائري، للمتفرج دور إيجابي وحق التدخل، وله أزياء خاصة، والفنون والرقص عنصران أساسيان في بنية الدراما، كما أن الآلة الموسيقية مرئية، والممثل شامل فهو يغني، يتحرك، يمثل، يعزف، وللأكسسوارات دور أساسي وليست مكملة. كما أن المكياج يناسب لون البشرة السودانية وله رموز من تخطيط فى الجبين ووشم وألوان فاتحة». ويضيف «أن مسرح الشارع ومسرح أبادماك قد نجحا الى حد ما في الرجوع الى المسرح المحلي».

قدمت في المؤتمر ورقات عديدة عن حكايات شهرزاد، وكيفية استخدام الآثار في العروض المسرحية واستخدام الخيال في المسرح وغيرها. وما شهدته الخرطوم مجرد حلقة من مؤتمرات دأب المهتمون بالمسرح على عقدها سنويا، وكان الأول في بلجيكا عام 2003، وتبعه الثاني في المغرب، والثالث في الخرطوم، شاركت فيه كل من مصر، المغرب، العراق، ألمانيا، بلجيكا، هولندا والسويد.