المهاجرون في أوروبا يثأرون لأنفسهم بالأغنية العنصرية

عندما يتحوّل الاندماج إلى قضية عاطفية.. الجزائريون يفضلون الاختباء خلف الألحان

TT

يقدر عدد المهاجرين العرب في أوروبا بحوالي 10 ملايين مهاجر، ثلثهم من المغاربة. عدم قدرة هؤلاء على الاندماج وكذلك العنصرية المتزايدة التي يلاقونها باتت تصبغ سلوكهم اليومي، وحتى الفني. فهم لا يتزوجون الأوروبيات، وإذا حدث فهذه الزيجات تنتهي بالفشل في كثير من الأحيان. التراث الغنائي الجزائري خصوصا، والمغاربي عمومًا، بات يتكئ على رصيد مهم من أغاني «الانطواء» في الغيتو «القُطري»، والركون إلى «العنصرية العاطفية» إن جاز التعبير... وكأنما التقوقع لا يواجه إلا بمثله، لكن الأساليب تتعدد والنتيجة أبدا واحدة.

ماذا تفعل عندما يتعذّر اندماجك في مجتمع هاجرت إليه؟ البعض ردود فعلهم «ساخنة» فيخططون للعمليات الانتحارية، وثمة فئة تختار استننساخ «الآخر» الغربي. ويفضّل الجزائري طرقًا أكثر مكرًا من الحلين السابقين، تبدأ بالهجوم الاستباقي، لكن النهاية تبقى في علم الغيب... ودوما تبرز الأغنية كأفضل شاهد على ما يحدث في المجتمع، وما يتراكم فيه من تناقضات.

يبدأ الأمر بالشكوى من الغربة حتى قبل معايشتها، كنوع من سياسة «الهجوم أفضل وسيلة للدفاع». في هذا الإطار تردّد الجزائريات كثيرا أغنية تقول «يا ربيّ سيدي آش عملت أنا ووليدي/ ربيته بيدي وادّاتوا بنت الرومية» أي «يا مولاي وسيدي، ما الذي فعلته أنا وابني/ تربّى في حضني ثم اختطفته بنتُ الأجنبية». هذه الأغنية تتحدّث عن أشياء كثيرة لكنّها تكشف جانبا رائعا من مشكلة الغربة في الذهن الجزائري، تلخيصها أن الغربة «قضية نسائية بحتة» بالنسبة للجزائري، بدليل أن كل أغاني الغربة تتحدّث عن القضية من هذا المنطلق.

المرحوم سامي الجزائري غنّى «بنات بلادي» ووصفهن بكل حسن، وبما لا يخطر على بال بشر «كل اصبع بصنعة/ ونظرتها تذوّب الشمعة»، أي «كل إصبع بمهنة /ونظرتها تذيب الشمع». هذا الاعتزاز النسائي الوطني سوف يتخفّف كثيرا في أغاني المغنّي المغترب الشيخ الحسناوي الذي ينزل في فرنسا كبدوي حقيقي وينبهر بـ«بنات الغربة» ويؤلّف أغنية كلها ولهٌ ودهشة «يا بنات الغربة....تحبو ـ تحببن ـ السهرة وشطيح ـ رقص ـ السامبا».. هذه الأغنية الهزلية الرائعة تصوّر بصدق اندفاع الشيخ الحسناوي خلال أوّل أيّامه بفرنسا، وركضه المجنون خلف الفتيات على طريق الشانزليزيه بأسلوب لا عقل فيه ولا تعقّل، وكيف يحاول هذا الشيخ القادم من جبال جرجرة أن يتخلى عن «البرنس» و«الجبة» ويتعلّم رقص السامبا، وكيف يحاول الاندماج في هذا المجتمع، يشتري سيّارة، يعمل ليل نهار، يرطن بالفرنسية.. فقط كي يظفر بحسناء من اللواتي تحدّث عنهن الكاتب اللبناني الفذ أحمد فارس الشدياق، في الجزء الثاني من كتابه «الساق على الساق»!

وخُذْ حذرَكَ فالجزائري لا يبحث عن زوجة من بين الأوروبيات، لكن عن «حبيبة» لا أكثر، فإذا تزوّج فمن أجل «تسوية بطاقة الإقامة»، ولكن النتيجة ليست مرضية دوما، فإذا كان «راشد الماجد» قد تحدّث عن «حياتي معها حلم وردي»، فإن الجزائري رضا الطالياني يخاطب زوجته الإيطالية في أغنيةٍ جدّ شهيرة بقوله «جوزيفين..ما درتي فيّا/ اعطيني كواغطي ونكوتي، نروح لدارنا....نحطّ راسي في الراية ونخبّر البوليسية»، أي «جوزيفين ..ما الذي جنيته عليّ/ أعيدي لي وثائقي وهويّتي كي أعود لبيتنا... سأضع رأسي على سكة الحديد وأخبر الشرطة». هذه الأغنية التي أرقصت الجزائريين جميعهم صيف 2004 تتحدث عن شاب يتزوج من إيطالية قصد تسوية وضعيته، لكن «جولييت» الإيطالية لا تفهم كيف يمكن أن تطلق «روميو» بعد أن تزوّجا عقب قصة حبٍّ حرّكت عظام شكسبير في قبره، وإذن فهي تحتجز وثائقه كي لا يفرّ منها، وهو يجني الأسوأ، فلا زواج مستقرا ولا وثائق سوّيت ولا عودة للمنزل... إنّه يهدّدها في هذه الأغنية/ البيان بالانتحار.. ويستدرك بأنّه سيخبر الشرطة كي يفضحها حيّا وميتا!

ولكي تكتمل الصورة فإن الشيخ الحسناوي الذي جنّ بـ«بنات الغربة» قد انتهت حياته غريبا في «كاليدونيا الجديدة» ـ إحدى المستعمرات الفرنسية ـ وانتهى الأمر بالنجم رضا الطالياني مسجونا بفرنسا بعد أن ثبّتت عليه إحدى الحسناوات تهمة التغرير بها وضربه لـ«صديقها»... هل هنالك من دليلٍ أفضل على صدقية تلك الأغاني وان أصحابها يقولون ويفعلون، أكبر من هذا؟

مشكلة الاندماج في مجتمع الغربة تبدأ عند الجزائري بطريقة خاطئة، فهو يحاول ابتداءً أن يستغل سذاجة الأوروبيات وينتهي بأن يكتشف أن «تعالي» الغربي على المشرقي ما زال يَرْصُفُ مختلف الطرق التي تجمعهما.. حتى طريق الحب. فهذا الشاب بلال يعلن أنّه خان الميثاق غير المكتوب للمغتربين، وارتكب جرما فظيعا فعشق أوروبية وتزوّجها والعياذ بالله! فماذا كانت النتيجة؟ لقد انتزعت منه رجولته، تقول أغنية بلال «الناس ادّات لمرة الساجية وانا ديت لمرة الماضية..»، أي «الناس فازوا بنساء رائعات وأنا بواحدة مسمومة!»، وتمضي تعدّد مساوئها: إنها تشرب الخمر، وتسهر خارجا إلى ساعة متأخرة من الليل ولا تعترف له بالسيادة الوطنية. بلال هنا يتقمّص دور المسلم الصالح الذي يهمّه أن لا تُلغى رجولته بطريقة مهينة من طرف امرأة غربية لا ترى مناسبا أن تقدّم الخريطة الجغرافية لمشاويرها لزوجها.. أَولا يثق فيها؟ وإذن فلم التعب والعتب؟

هذا الاختلاف الفطري في المزاج بين المهاجر الجزائري والآخر الغربي، والنية المبيّتة للخداع، هما الرافد الذي يجعل الاندماج مستحيلاً لأن كل واحد يرتدّ لأبعد نقطة من أفكاره المسبقة عن الآخر عند أوّل صِدام، وتنطلق الحروب الصليبية من جديد ولكن داخل ذات البيت. وهنا لا يغدو الاختلاف السلوكي والثقافي سوى واسطةٍ لتبرير الأفكار المسبقة، فـ«الشاب حسان» رغم أنه ابن منطقة محافظة قدّم أغنية تتغزّل بحبيبته الجزائرية وتقول عنها «محنتي تبغي الروبلة.. السكرة والمبات خلا»، أي «حبيبتي تحب الصخب.. السكر والمبيت خارجاً!»، أي أن السلوك في حدّ ذاته ـ أي السهر خارجا وحتى السكر ـ قد لا يكون العامل الأنسب في تحليل عدم التوافق بين الزوجين بل السبب هو الموروث العاطفي الذي يجعل سهر «بنت البلد» خارجا نوعا من شغب الشباب المحبّب وذات السلوك حين يصدر من طرف «الغربية» فهو إخلال بالرجولة!

يبدأ الاغتراب الجزائري بالركض خلف الفتيات على طريق الشانزليزيه وينتهي بالركض أمام شرطة ساركوزي في الأزقة المظلمة في «سان دوني».. وعلى الشّفاه أغنية الأم الحنون «يا ربي سيدي... يلعن البنت الرومية!».