السعافين: المجتمعات المنغلقة تهتم بالهامشي ولا إبداع في غياب الحرية

الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية لـ «الشرق الأوسط»: أنا مع الحرية المطلقة، لكنني ضد المواجهة المباشرة مع الوجدان العام

TT

نال الباحث والناقد والمترجم الأردني إبراهيم السعافين أخيرا، جائزة الملك فيصل العالمية في فرع الأدب العربي، مناصفة مع د. منصور الحازمي.

وفي هذا الحوار مع «الشرق الأوسط»، الذي تم في الرياض، يتحدث السعافين عن السرد العربي، والمنجز النقدي، والانغلاق والانفتاح، وحدود حرية الابداع ارتباطاً بالظرف والمكان، إضافة إلى تجربته في الترجمة.

* من هي الجهة التي رشحتك لنيل جائزة الملك فيصل العالمية في فرع الأدب العربي؟

ـ الذي أعرفه أن الجامعة الأردنية هي التي رشحتني لهذه الجائزة، لكن علمت في لقاء مع زملائي من جامعة الملك سعود انهم هم الذين رشحوني لنيل هذه الجائزة، مما يعني أن الترشيح جاء ثنائياً، وقد فوجئت بذلك.

* ما هي المعايير التي تم على ضوئها في نظرك، ترشيحك لنيل الجائزة ثم الحصول عليها بالمشاركة مع الدكتور منصور الحازمي؟

ـ الجهات التي رشحتني تعلم أنني مهتم بالدراسات السردية، فقد قضيت وقتا طويلا جدا من حياتي في دراسة السرد العربي في ما يتصل بالرواية والقصة القصيرة والمسرحية، فأنا تقدمت إلى هيئة الجائزة بستة كتب ابتداء من تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام، وانتهاء ببعض البحوث المفردة التي نشرت في المجلات المهمة كمجلة «فصول» في جماليات التلقي، أو بعض البحوث التي نشرت أيضا في مجلات عالمية.

* ما هي الجوانب التي ركزت عليها في هذه البحوث؟

ـ كلها تقريبا حول الرواية والقصة والمسرحية، وربما لاحظ النقاد أنني اهتممت بقضية تأصيل السرد العربي، بمعنى أن السرد العربي له أسسه ومفاهيمه القيمة، السرد العربي ليس نباتاً شيطانياً، إنما هو امتداد لتراكم سردي هائل أثّر في وجدان العالم، يعني المقولات التي آمن بها بعض الدارسين حتى في الجامعات، على سبيل المثال أذكر في الجامعة الأردنية كان هناك قسم اسمه فنون أدبية حديثة، وسألت ما المقصود بالفنون الحديثة، فقالوا إنه فن الرواية والقصة القصيرة والمسرح، على اعتبار أنها حديثة واستوردناها استيراداً، وربما أتينا بها لنستنبتها في التربة العربية. وأنا في رأيي أن هذا فيه مبالغة. إذا عدنا إلى مفهوم المرجعية، يعني ما هو المرجع (مرجع الرواية)، كيف نعرّف الرواية، الرواية هي: كذا وكذا.. لكن هذه الرواية التي عرّفناها لم تعد كما كانت، فمرجع الرواية في القرن الثامن عشر ومفهومها لم يعد هو، وسنجد اختلافا في ذلك على مدى القرون الثلاثة الماضية من حيث المعايير، والسبب في ذلك عدم وجود مرجع ثابت، فالرواية في رأي النقاد الكبار ليست عملاً منجزاً فهي في تطور، وقابلة لأن ينظر إليها من زوايا مختلفة، لا تستطيع أن تقول كما رأى نجيب محفوظ. في وقت سابق، كنت أتصور أن هناك مرجعاً صحيحاً ومرجعاً خطأ، المرجع الصحيح هو المرجع الأوروبي، وهو كيف يكتب الأوروبيون رواياتهم، والخطأ هو ما يخالف ذلك، لكن نحن نكتشف أن الأوروبيين لا يقفون عند صورة معينة، فرواية لشارلز ديكنز تختلف عن رواية لكاتب آخر. هذه أشكال مختلفة، فهؤلاء يهتمون بالحبكة على سبيل المثال، وآخرون يهتمون بالشخصية، وروايات أخرى لا تهتم لا بالحبكة ولا بالشخصية، وتنطلق من مفهوم فلسفي ـ فكري مختلف، بمعنى أن هذه الذات الإنسانية المتضخمة ليست حقيقية، الإنسان يجعل نفسه مركزا للكون. لماذا نهتم بالشخصية الإنسانية، ربما كانت الأشياء أهم قيمة من الإنسان، هذا رأي أصحاب الرواية الجديدة، وأنا انطلق من هذا الرأي. ان المرجع ليس ثابتا، بل لا يوجد مرجع مستديم، فلماذا لا نعيد النظر في مفهوم المرجع الأوروبي أو الغربي، سنعيد النظر في مفهوم القصة بالنسبة إلينا في تراثنا، وأنا كتبت بحثين تأسيسيين في هذا المفهوم، احدهما موجود في مقدمة كتابي «قضايا الشكل في الرواية العربية»، وآخر كان بعنوان «قضايا الشكل في القصة العربية القصيرة»، وأشرت فيه إلى قصة موجودة في كتاب «الحيوان» للجاحظ في الجزء الثالث، وهي قصة مشهورة عن القاضي عبد الله بن سوار والذباب.

* وكيف ترون الأسلوب الأمثل لإحداث تغيير في المفاهيم الخاصة بالرواية الغربية وعلاقتها بالرواية العربية؟

ـ أنا أتصور أنه حدث ذلك في تطور المرجع عند الغرب وعندنا، لم تعد الرواية مرجعاً ثابتاً، ففي كتاب جمال الغيطاني «نجيب محفوظ يتذكر» يقول حتى «الستينات وأنا أتصور أن هناك مرجعاً صحاً ومرجعاً خطأ، المرجع الأوروبي هو الصحيح، والمرجع الخطأ هو ما اختلف معه، لكن في ما بعد شعرت أن كل عمل روائي له إيقاع»، واصدق دليل على ذلك، حين كتب نجيب محفوظ «حكايات حارتنا» وسماها رواية، ولو ولم يكتب عليها حكايات لقلنا هو لا يريد أن يمس الشكل الروائي، لكن هو عنده النية وعنده القصد بعدم وجود شيء اسمه مرجع.

الرواية بالنسبة إلي هي الشكل الذي يلبي الفكرة أو الحسّ الذي لدي، ففي الحكايات لا توجد شخصية فيها، توجد شخصيات متنوعة لكل حكاية شخصية، ونحن نعرف أن العمل القصصي منذ القدم يسير في هذا الإطار، وفي العصر الحديث أصبح لكل حكاية بطلها وجعل المكان هو البطل، ففي ملحمة الحرافيش عملت سلسلة أجيال، وفي رواية «ألف ليلة» كأنها الليالي القديمة وأعادها بشكل عصري، بالإضافة إلى الآخرين الذين حاولوا أن يكتبوا عن المقامات أو يستمدوا أو يستهلموا بعض الرسائل كجمال الغيطاني، أو الحوليات أو الخطب وهكذا.

* ما الذي يجمع بينك وبين الدكتور منصور الحازمي، الذي شاركك الفوز بالجائزة في فرع الأدب العربي؟

ـ ما يجمع بيني وبين الدكتور الحازمي على الصعيد الشخصي، أننا زملاء، حيث كان رئيساً لقسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود وكنت حينها أعمل في القسم متخصصا في الأدب الحديث، وركزنا تركيزاً أكبر على الفنون السردية والتقيت مع الدكتور الحازمي في مجلس أمناء مؤسسة جائزة عبد العزيز بن سعود البابطين وأحياناً تتفق آراؤنا في ألا نعطي اهتماماً كبيراً جداً للتقليعات أو الصرعات التي لا تغوص إلى الجوهر، وربما كلانا يهتم بما يأتي من الخارج، ويعتقد أن الانغلاق فيه من الضرر البالغ للأدب والثقافة والفكر العربي، لكن إذا أردنا أن نستفيد مما يأتينا أو مما نطلع عليه، نستفيد ببصيرة وبتعقل، وبما يمس الجوهر، لا أن تكون القضية هي قضية تقليعات أو موضات.. إلخ، ربما هذه بعض الأشياء التي تجمعنا.

وأضيف أن كل شخص له رؤية تخصه في ما يعمل، وهذا ربما حكم للذين يقرأون إنتاج كل منا، ولم ألمس اختلافاً جوهرياً بيننا، وحين نتحاور أشعر أننا سرعان ما نلتقي.

* هل ازدياد شدة الرقابة سببه دخول المبدع في منطقة التحريم؟ هل أنت من مؤيدي الحرية المطلقة بعيدا عن تدخلات الرقيب الذي قد تنقصه الخبرة والتقييم الجاد المبدع؟

ـ أنا شخصيا ضد مواجهة مباشرة وحادة وحاسمة مع الوجدان العام، أتصور أن المبدع ينبغي أن يحترم الوجدان والمشاعر العامة. أنا مع الحرية المطلقة في كل شيء للمبدع، بشرط أن تكون هذه الحرية آتية من رؤية جوهرية للحياة، ومقنعة فنياً وبعيداً عن التنظير، ومراعياً للمشاعر العامة، أقول الحرية المطلقة هي مطلب المبدعين في كل الأمكنة والأزمنة.

الذين يريدون استخدام العامية منطلقهم منطلق فني، لكن حين ندرس القضية دراسة واقعية من خلال التطبيق الواقعي للفن، ستجد أن دعواهم غير صحيحة، لأنهم حين ينبغي أن يستخدموا العامية يستخدمون الفصحى، وكتبت ذلك في بحث أثبت من خلاله أن دعاواهم غير صحيحة، لأنهم لا يلتزمون بما يقولون وهذا الأمر يتعلق بمفهوم الحرية، نحن نريد أن نقول كل شيء بمنطق أن هذا يستدعيه الفن، الحقيقة لم أقرأ أي عمل فيه مساس بالمحرمات أو ما يتعلق بالدين أو الجنس، فمثلا رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» على سبيل المثال، لم يكن فيها ما يستدعيه الفن، اعتقد انه يبحث عن الشهرة الزائفة. أنا من الذين يميلون إلى عدم المصادمة مع الوجدان الجمعي، وجدان الناس.

* حتى لو تطلب الجانب الفني احداث هذا الشيء، هل ترى له مبرراً؟

ـ اعتقد أن الجانب الفني لا يمكن أن يصطدم مع وجدان الناس إطلاقاً.

* ما هي مساحة الحرية المطلقة؟

ـ أنا أنادي بالحرية، بمساحة مطلقة يقتضيها الفن، وهنا أعود للوراء مثلا لقضية «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، ما هي الاشياء الجوهرية التي أراد أن يقولها ولو أنه لم يقلها لتصادم هذا مع الفن؟!. اعتقد أن وجدان الناس مهم جدا، فأنت تكتب لمن؟، تكتب لتصطدم مع وجدان الناس، وجدان الجماعة، وجدان البسطاء؟. لا أتصور أن هناك اصطداماً بين ما يقتضيه الفن وبين وجدان الناس، وهذا ما أتصوره.

* عملية التسابق في التطاول على الذات الإلهية والثوابت والمقدسات من قبل بعض المؤلفين والروائيين بدأت تحدث الفرقة والفتنة، ماذا تقول في هذه القضية الحساسة؟

ـ أنا أتصور أن هذا ممكن، فإن صح عن رواية سلمان رشدي على سبيل المثال، فانها تحوي قدراً من التطاول والمساس بالمشاعر الدينية، لا شك أن هناك أناساً لهم أهداف ويحبون الإثارة، ومعظم هؤلاء الذين يذهبون هذا المذهب، إما أنهم يريدون الشهرة أو أنهم يريدون التصادم مع وجدان الناس، لكن ما الفائدة من هذا كله؟.

في تصوري إذا كان الهدف الترويج لأفكار معينة بحجة الحرية، فإن الضرر أكبر من النتيجة.

* ما يحدث في مصر من مصادمات عنيفة بين تيارات متزمتة وأخرى مرنة، كيف يمكن الوصول إلى حلول مرضية نصل من خلالها إلى القبول والتراضي؟

ـ أحيانا هناك اتجاه مقابل وهو في نظري غير مقبول، لنأخذ مثلا ديوان أبي نواس له فترة طويلة بين الناس ولم يتحدث أحد عنه مع ما يحتويه من قصائد الخمريات والجواري واحاديث عن محرمات يستحيل ان نضعها في مقارنة مع غيرها.

ايضا «ألف ليلة وليلة» موجودة وهي تضم الكثير من المحاذير، كتب الأدب جميعها من رسائل الجاحظ إلى محاضرات الاصفهاني.. إلخ، كلها مليئة بكتابات تناقض الثوابت، هذا شيء، وما يكتب شيء آخر، لأن الأدب في ذلك الوقت كان ينتج في مجتمع ذكوري يقال فيه ما لا يخطر على بال. هذا الكلام لا يصطدم مع وجدان الجمهور، هذا شيء. والحديث في ما يمس المعتقدات شيء آخر، ثم ان رفض أي شيء له علاقة بالجنس هو نتاج تفكير ضيق في تصوري. المجتمعات المنغلقة وكلما ضعفت الأمة ماديا وتكالب عليها الناس تتمسك بالأمور السطحية والهامشية.

* هناك من يحرم ما هو مباح أدبياً وإبداعياً خاصة ممن هم محسوبون على تيارات آيديولوجية وليس تيارات نقدية؟

ـ هذا صحيح، يجب أن افصل فصلاً حاسماً بين الدعاوى التي تنطلق من الفن وتحاول جاهدة أن تفسر الفن تفسيراً ضيقاً جداً.

مثلا هناك بعض الروايات التي يأتي فيها الجنس موظفاً باعتبار أن الجنس موجود في الحياة الإنسانية والاجتماعية، والكاتب هنا لا يقصد أن يسيء إلى معتقدات وتقاليد، أتصور أن توظيف الجنس في العمل الابداعي، عادي جداً، وهو موجود في تراثنا وتسامح معه اجدادنا ومفكرونا وعلماؤنا وفقهاؤنا، لم يصطدم مع وجدانهم وذوقهم، لكن الحاصل اننا نعاني من انحسار في موجة التسامح وهو ما يعبر عن ضيق أفق. لكن أريد أن أقول إن أولئك الذين يسعون إلى الاصطدام بوجدان الناس، ليسوا على حق أبداً، وهناك بعض المفكرين والأدباء يحاولون أن يركبوا الموجة، وهم بطريقتهم هذه سيحرقون الاخضر واليابس، هذه لا أقبلها ولا اقبل الانغلاق ايضا.

* ترجمتك لرواية «في ظلال الرمان» لطارق علي، هل وجدت فيها خروجاً عن الثوابت والتطاول على الذات الإلهية؟

ـ رواية في «ظلال الرمان» كانت متأثرة بمفهوم الفيلم، لأن المؤلف يعمل في الإخراج وكتابة السيناريو. أما عن ترجمتي للرواية، فقد حذفت منها عبارة تتطاول على ذات اللّه. لقد حذفتها من الترجمة ولم تؤثر مطلقا في سياق وترابط ترجمة الرواية، بمعنى آخر أن وجودها لن يفيد بشيء وحذفها لن يؤثر بأي حال.

* اعتماد المبدعين العرب على النهج النقدي الغربي، هل يعني هذا فشلاً في تطور الأداة النقدية الخاصة بنا؟

ـ اعتقد أن الاعتماد على النقد الغربي لا يعني فشلاً ذريعاً، وهو بمقياس آخر لا يعني نجاحاً لنا.

النقد العربي منذ مطلع النهضة وظهور الجامعات لم يستطع أن يتواصل مع النقد العربي القديم، أصبحت هناك فجوة بين المنجز النقدي التراثي والمنجز النقدي الحديث، فلو تذكرنا بعض النقاد في القرن التاسع عشر من أمثال حسين مقصفي وحمزة فتح الله وغيرهما. الجيل التالي لم يستطع ان يأخذ منهم الراية ويحاول أن يطور من خلال المنجز العربي القديم، قد يكون للنقاد الحق في تلك المرحلة لأن الجيل الحالي لن يستطيع أبداً أن يطور أدواته النقدية، حيث يتعامل مع النصوص، اضافة إلى أن النقد العربي القديم لم يتعامل مع جزء أساسي من الإبداع في القصة والرواية ولذلك اعتمد النقاد العرب على المقاييس والمرجعيات الغربية التي تلبي حاجاتهم بسرعة. وأرى في هذا استسلاماً للسائد السهل لا أجد له أي مبرر، المهم أن ينطلق الناقد العربي من موقف عام شامل يربط الابداع بالحضارة. وقلة من النقاد العرب اتجهوا نحو هذا الطريق وكانت لهم رؤية عميقة، أتصور أن كثيرا من الأصوات النقدية العالية حاولت أن تستغل الظرف التاريخي لتفرض حضورها في الساحة النقدية، وذلك تبعا للموضة أو التقليعة يعني إذا حدث تطور معين في النقد الغربي فيتبنى هذا الاتجاه فوراً ويفصل له ثوباً من داخل الابداع العربي.

في ظني أن هذا الاستسلام للمنجز الابداعي الغربي سيؤدي حتماً إلى عدم تطوير الابداع والنقد العربيين.