قصص سعودية حديثة تفتقد المتابعة الجادة

الدرعان والصقعبي والشمري اصدروا مجموعات جديدة متميزة مرت بهدوء

TT

لم تعد الاصدارات الابداعية في السعودية محركة للجدل والاحتفاء والتفاعل اسوة بسنوات مضت كانت فيها الساحة الثقافية على قدر من النماء والتعدد ـ والشللية ايضا ـ منقسمة الى طرفين، الاول محافظ غير راض بحركات التجديد والتحرر من ربقة النص القديم، والثاني شغوف بكل ما هو جديد متجاوز مهما شكل من علامات الاستفهام، وواجهته العقبات واصوات الرفض والاستماتة في اشعال جذوات معركة تأتي احيانا على حساب الفن الاصيل والابداع الذي تسعى الذائقة الخلاقة الى الاستمتاع به، والتواصل معه.

وبات من المألوف صدور اعمال ابداعية على قدر من الجودة، تطبع وتوزع على استحياء، وتمر بدون ان تتحرك انظار القراء اليها بشكل مأمول، او يلتفت النقاد لمراجعتها والاقتراب من عوالمها النصية ترسيخا لمبدأ التفاعل الذي تنشده الحالة الثقافية.

وتراجعت المتابعة الصحافية التي تعددت اشكالها سابقا، وانشغل صحافيون ثقافيون بالعمل الصحافي اليومي، واتجه آخرون الى مؤسسات بعيدة عن الثقافة التي ينشدونها والابداع الذي يحلمون به بعد اضطلاعهم بدور واضح في خدمة الابدع ـ وان غلبت عليه الشللية والمجاملات احيانا كثيرة ـ فكان من النادر صدور عمل ابداعي مطبوع بدون ان تتناوله مجموعة من رفاق المؤلف او النقاد الذين دأبوا على تناول الاصدارات بشكل متواصل بمعالجات سريعة.

ومن المجاميع القصصية الصادرة اخيرا في السعودية مجموعة «رائحة الطفولة» للقاص عبد الرحمن الدرعان الصادرة عن مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية في الجوف لتبرهن على احجام المؤسسات المعنية بالابداع عن تولي دورها في اصدار مثل هذه المجموعة ما دعا الى صدورها عن مؤسسة لا يبدو من اسمها أن لها علاقة مباشرة بالفعل الابداعي والنشر الثقافي، وقد مرت المجموعة بهدوء بدون ان يتحقق لها الاثر المتوقع من قبل الذين اطلعوا عليها.

تقع المجموعة في 120 صفحة من القطع الصغير وتضم 14 نصا قصصيا افتتحها الكاتب بمقطع من «قسطنطين كفافي» منه: «وتقول لنفسك: سوف ارحل، الى بلاد، الى بحار اخرى، الى مدينة اجمل من مدينتي هذه، لن تجد ارضا جديدة، ولا بحارا اخرى، فالمدينة ستتبعك، وستطوف في الطرقات ذاتها، وتهرم في الاحياء نفسها، وفي البيت نفسه سوف تشب وتموت».

والمجموعة تزخر بحكايات يسردها القاص باسلوب مخاطبة القارئ لاشاعة اكبر قدر من التداخل معه، وتقليص المسافات بين المحكي عنه والمتلقي، وهي سمة من سمات كتابات المؤلف عرفت عنه في مجموعته الاولى «نصوص الطين» الصادرة قبل سنوات.

وتتكثف اللغة الشعرية عند القاص وتبدو قدرته المميزة على سرد التفاصيل والغوص في حياة شخوصه واستنطاقها في نصوص مكثفة وعميقة التجربة.

وتقترب النصوص من عالم بيئة القاص بتداخلات النسيج الاجتماعي، عبر الحوارات المثقلة بحمولاتها الدلالية مستفيدة من ترميزات الحكاية الشعبية، ثم تقتطع منها ما يساهم في اثراء نسيج القص بدون الوقوع في نمطية طغت على نصوص كثير من كتاب القصة السعودية في تعاملهم مع البيئة الاجتماعية خلال نصوص تبدو وجدانية رومانسية تنشغل كثيرا بالحنين الى الماضي على حساب تقنيات الكتابة.

أنت النار وأنا الفراشة كما صدرت قبل فترة وجيزة المجموعة الخامسة للقاص عبد العزيز الصقعبي تحت عنوان انت النار وانا الفراشة، وهي مجموعة تؤكد براعة الصقعبي في التعامل المتقن مع السرد الدرامي وتمكنه من اشاعة اللقطات البانورامية بلغة لا تجنح كثيرا نحو العوالم الشعرية والتكثيف الترميزي محافظة على مستويات ملحوظة من الشفافية، ولعل القاص في هذه المجموعة ومجموعاته السابقة يؤكد براعته القصصية وعدم تناسيه لتقنيات الكتابة المسرحية التي له فيها تجربة سابقة.

صدرت المجموعة عن دار الكنوز الادبية ولم توزع داخل السعودية ويغلب عليها التوجه الواقعي والبحث عن سبل تجاوز عاهات تعترض الطريق الامثل للحياة الاجتماعية اذ تتحمل اجواء السرد والحوارات الداخلية وعلاقات الشخوص بما يعتبر دليلا على الضيق بفقد الهوية او ذوبانها في ظل عراك يومي لتحقيق المطالب الهامشية.

ورغم تناول الصقعبي لبعض القضايا الاجتماعية المألوفة الا انه يجيد النظر اليها عبر رؤية بانورامية وحوارات متداخلة يتنامى معها الصراع، معتمدا ترقيم مقاطع القصة لينتقل القارئ من نص لآخر في مناخ من الحيوية يلغي الزيادات وثرثرة الكلام.

اما القاص عبد الحفيظ الشمري فأصدر مجموعته القصصية السادسة بعنوان «ضجر اليباس» عن النادي الادبي في الرياض، وتضم 11 نصا قصصيا تؤكد ابداع الشمري الذي دأب على تقديمه خلال سنوات تجربته القصصية المثابرة باعتباره من جيل ادبي اتى في فترة تراجعت فيها فعاليات حضور النص الابداعي، وتقلصت مناسبات الاحتفاء به، والامسيات التي الفها المهتمون بالفن القصصي على امتداد الثمانينات ومطلع التسعينات.

تتعامل نصوص الشمري مع كثير من متغيرات المجتمع السعودي، وقضايا الفرد في صراعه الذاتي المنكفئ على الداخل، او علاقاته المشتبكة مع الحضور والغياب بين مكانين الأول يتمثل في المدينة ولمع واجهات مبانيها وحدة الصراخ النابت في تفاصيلها، وبين القرية النائية بذكرياتها وشخصياتها، وهي ملامح تشترك فيها نصوص كثير من كتاب النص السردي في السعودية.

وتجملت اجواء النصوص بلغة شعرية مفعمة بالشفافية والثراء الدلالي الذي يمنح اللقطات المشهدية التي يكرسها القاص فرصة تبرهن على قدرة تحيل الوقائع المسرودة مهما كانت مألوفة وعابرة الى سياق الادب الداعي لقراءة متعددة الاوجه.

ويسود بعض النصوص فضاء غرائبي تتكثف فيه الصورة، وتبدو فيه قدرة الكاتب على التعامل بدقة مع التفاصيل وعمق اللقطات وتحويل اليومي الى حدث يستحق السرد الابداعي اعتمادا على زاوية الرؤية ولغة الكتابة القادرة على منح تفاصيل الحكاية النبض والحياة.