مصالحة ممكنة بين ضرورتين

«الفلسفة والشعر» لماريا ثامبرانو بالعربية

TT

يمثل كتاب «الفلسفة والشعر» تصورا لما صاغته ماريا ثامبرانو في عام 1939، خلال منفاها في المكسيك، وقد قدّمت المؤلفة فيه تفكيرا واضحا عن التصالح الممكن بين ضرورتين لا يمكن نكرانهما، ضرورتان تبدوان في الظاهر متناقضتين في الوعي الإنساني (الشعر والفكر). ما هي جذور ذلك؟ أي الضرورتين هي الضرورة الأكثر عمقاً؟ أيهما التي يستحيل إنكارها؟ من خلال الأسئلة تسبر ثامبرانو الأعماق بحثا في هذه المواضيع، وفي علاقة الشعر بالأخلاق، والتصوف، والميتافيزيقيا منذ سقراط وأفلاطون وكيركجارد ونيتشه وهيدغر وغيرهم. وصلت ترجمة لويس ماسينيون لديوان الحلاج إلى ثامبرانو، بمحض الصدفة، في عام 1955، حيث قرأت قصيدة شبيهة بالقصيدة المذكورة: مثالك في عيني وذكراك فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب هذا الغياب، سيصبح محور أبحاث ثامبرانو الفلسفية والروحية.

قبل عرض هذا الكتاب، من الضروري تحديد المؤثرات العديدة التي أثرّت في فكر ماريا ثامبرانو منذ بداية مؤلفاتها، وتأثيرها هي على غيرها، لأن ذلك يفسر لنا تفرد طريقتها في التفكير داخل الأوساط الفكرية الإسبانية والغربية، ولهذا الهدف يجب تحديد أن المفكرة منذ بداية كتابتها سنة 1928، قد برهنت على نقد ثقافي عميق للغرب، لأنها تنظر إليه على أنه محكوم عليه بفقد الروح والإنسان معا.

في الواقع، فإنها وهي تعمل على تجاوز المفارقتين، بين التراجيديا والفلسفة من جهة، وبين الحياة الخاصة والحياة السياسية من جهة أخرى، بدأت موضوع كافة كتبها المتعلقة بملاحظة الانفصال التواصلي بين المعرفة والسلطة والحب، إن جذر المشكلة بالنسبة لثامبرانو هو الانفصال الذي حصل بين الحياة والفكر العقلاني المحض، وهذا هو موضوع النقد الذي ينظم مؤلفاتها. وفي هذا السياق فإن شخصيتي الشاعر والفيلسوف تمثلان قدرتين، منذ أفلاطون ويونان القرن الرابع قبل الميلاد، غير قابلتين للمصالحة في الحضارة الغربية ـ يشكل نيتشه استثناء لتفصيل هاتين القدرتين ـ الشاعر عاجز عن نسيان الضرورات الحميمية للحياة، والفيلسوف يستل الفكر من جذور الحيوية.

وهكذا نجد أن الخط النقدي لأسباب الأزمة بين الحياة والعقل، بين الشعر والفلسفة، هو استمرار لخطين كبيرين في الفكر الأوروبي، ولتأثيره على الفكر الإسباني الشاب منذ بداية القرن العشرين.

من هنا كان البحث الدائم لدى ثامبرانو لدمج، ليس فقط الفلسفة مع الشعر في مفهوم سنطلق عليه اسم «العقل البشري»، بل أيضا دمج كل الحاجات الحميمية والدينية للكائن الإنساني، مثل حياة الأحلام وعلاقتها مع التجربة الزمنية. وعلى ذلك يكون هذا «العقل الشعري» الذي بدأ مع بداية فكر ثامبرانو، قد تشكل على صورة عقل «روحاني عميق»، بالمعنى المطلق للكلمة.

في كتاب «الفلسفة والشعر» يرتسم الانفصام واضحا بين المشكلتين الأساسيتين للمعرفة: الفلسفة والشعر، وعلاقتهما بالتاريخ.

تسمّي ثامبرانو «المدينة الغائبة» ببيوتوبياها الخاصة، وتقول عنها: إنها جميلة جمالا مطلقا، ولكنها تقول عنها أيضا انه من المستحيل بلوغها، إنها استحالة النزول إلى الأحشاء، و«القلب» ونور العقل نفسه والحرية الحقيقية.

وهكذا يمكننا ان نقول أنه منذ بداية تفكيرها وثامبرانو تسكن وسطا برزخيا، هو الذي أسماه الفيلسوف المتصوف ابن عربي «ملتقى البحرين»، هذا المقام الوسطي سيصبح دربها، وهو يبدو مثل درب «التقليد العظيم»، إنه «الدرب الثالث»، ما بعد الأول الذي هو الرغبة الخالصة، وما وراء الثاني الذي هو العقل والوعي. وهنا يبرز ملتقى التناقضات، وحل كافة التناقضات التي تملأ هذا الكتاب «الفلسفة والشعر».

وقد وصلت ترجمة لويس ماسينيون لديوان الحلاج إلى ثامبرانو، بمحض الصدفة، في عام 1955، حيث قرأت قصيدة شبيهة بالقصيدة المذكورة.

مثالك في عيني وذكراك فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب.

هذا الغياب، سيصبح محور أبحاث ثامبرانو الفلسفية والروحية، ومن هذا المنطلق بدأ لويس ماسينيون يحتل دورا مركزيا، برز لديها من المقولة التي وضعتها على الصفحة الأولى من «الفلسفة والشعر» في طبعته الأولى التي لأسباب عبثية اختفت في الطبعات اللاحقة. توظف ثامبرانو كل المواضيع السابقة في كتابها «الفلسفة والشعر» لإيجاد علاقة تبادلية بين الفلسفة والشعر، الدين والسياسة، لتوجد عقلا يتحمل مسؤولية الحياة، وهذا ما تعبر عنه في «عقلها الشعري» تبحث عن منهج شعري للتجول في أعماق الجحيم وفي أعماق النور أيضا.

بالنسبة لثامبرانو هناك ملاك للفكر يقود دائما إلى السلم والغبطة، فمن خلال شخصيات: المنفى، الفيلسوف، الشاعر، القديس أو المبارك، فإننا نعمل على متوالية من الكائنات الإنسانية، والكائن الإنساني المبارك هو الخير نفسه، إنه الصورة الوفية للون الأبيض، الذي سبق أن اجتاز كافة الألوان ليصل إلى لونه.

هذه الجسور في فكر ثامبرانو هي علاقة بين فجر وفجر، وهذا هو مولد الإنسان وانبعاثه «بعد الليالي المظلمة للإنسانية»، ذلك أنها تعتقد أن العالم المعاصر «هو الليلة الأكثر ظلاما على مر الأزمان» وهذا الجسر هو استمرار لموسيقى انقطعت، موسيقى تعبر عن أحلام الإنسانية، وترنو إلى أرض موعودة أرض ثمينة، وهذه الأرض هي أرض القيامة التي هي «حلم مستمر».

هذا الكتاب أصبح بذاته دربا للأمل والسلام، للرحمة والعدل. والعدل كما يقول ماسينيون هو ذروة الحب.

ولعل أفضل منجزات ثامبرانو السعادة والأمل، ففي فكرها توجد شرارة عقل، مليئة بالرحمة والحقيقة التي تحدث عنها كثير من المتصوفة والمباركين، سواء عن طريق الثقافة أو عن طريق الروحانية، مثقفين أو أميين، ولكن في ملتقى هذين البحرين، داخل موج يؤدي إلى السلام في محيط بلا ضفاف. ماريا ثامبرانو (بيلث ـ ملقا 1904 ـ مدريد 1991)، احدى الشخصيات الفكرية البارزة في الحياة الثقافية الإسبانية المعاصرة، درست الفلسفة في مدريد، بصفتها مريدة لأورتيغا أي غاسيت، فكانت مساعدة له في جامعة مدريد.

غادرت وطنها 1939 إلى المكسيك، حيث عاشت في المنفى، عملت أستاذة في العديد من الجامعات، منها جامعة بورتوريكو وكوبا. عادت إلى أوروبا سنة 1953 وحددت إقامتها في روما.

ثم انتقلت سنة 1978 إلى سويسرا إلى أن عادت سنة 1982 إلى اسبانيا، حيث نالت جائزة ثربانتس سنة 1988.

من أعمالها «الإنسان والألوهية»، «اسبانيا.. الحلم والحقيقة»، «فضاءات الغابة»، من «الفجر» ومخطوطان عن الحب.