كلاسيكيات عُمانية حديثة

البيئة التي تشكل فيها الشعر القديم هي نفسها تقريبا التي أنتجت القصائد العمانية الطوال

TT

د. هادي جعفر حمودي السبع الطوال في العصر الجاهلي سميت كذلك لأنها طويلة، تصل الى تخوم الثمانين بيتا أو المائة بيت في كل قصيدة، وقد كان هذا الطول، لدى فريق كبير من الدارسين دالا على النفس الطويل للشعراء في تناول أغراض قصائدهم، التي كانت كل واحدة منها تمثل كياناً قائما بذاته، سواء من حيث الاستهلال أم سائر الموضوعات التي يمهد بها الشاعر لقضيته الأساس التي يريد الحديث عنها شعرا.

وطول القصيدة من جانب آخر ونعني بها القصيدة الجديرة بوصفها، يحمل في تضاعيفه اشارة واضحة الى مدى عناية الشاعر بشعره واخلاصه له وانتمائه الى قيم الفن الحقيقي.

ومما لا ريب فيه ان للبيئة دورها في تكوين القصائد شكلا ومضمونا، ومن هنا لا نستغرب في الشعر العُماني طول قصائده، فالبيئة التي تشكل فيها الشعر العربي القديم. هي ذاتها، تقريباً، البيئة التي تشكلت فيها (الكلاسيكيات) العُمانية الحديثة، ونعني بها القصائد التي ظهرت في القرنين الهجريين السابقين.

وقد تجاوزت هذه القصائد في طولها طول القصائد الجاهلية مرات مضاعفة، لذا فإن أول ما يلفت النظر فيها ذلك الطول غير المعهود قبلها، وهو طول حافظ على المستوى الفني، ولم يكن تطويلاً ولا تكلفاً ولا اقتساراً لفن الشعر، فبعضها يتجاوز الثلاثمائة بيت، وأغلبها يتراوح بين المائتين والثلاثمائة، فهل يمكن ان ترد هذه الظاهرة الى فروض البيئة، كما كان الشأن في الشعر العربي القديم؟! أم يضاف اليها تشعب الموضوعات التي صار على الشاعر أن يستجلي جوانبها ويشبعها بحثا وتنقيباً؟! يبدو لي ان الجواب هو الثاني، فموضوعات الشعر الجاهلي، مثلاً، كانت أقل شمولاً وتنوعاً من الكلاسيكيات العُمانية الحديثة. فقصارى أمر الشاعر الجاهلي ان يفتتح القصيدة بالاطلال ثم يخرج الى وصف راحلته، ناقته أو فرسه، ثم يعرج على موضوعه الذي لم يكن يتجاوز كثيراً الموضوعات التي تهم القبائل في نزاعها أو صلحها.

أما في القصائد العُمانية الطوال فقد تشعبت الموضوعات وزادت جزئياتها، فلم يكن أمام الشاعر إلا ان يستجليها، وأن يفصل القول فيها لأنه لا يريد الشعر لوجه الشعر، بل يريد من شعره أن يصل الى أوسع نطاق ممكن من الناس، وذلك، دائماً، غاية الشعر الهادف المكتنز بالمضامين الاجتماعية، ذات الأبعاد العقيدية والانسانية وحتى السياسية.

الشعر والتوعية يطالعنا الشيخ ناصر بن سالم بن عديم الرواحي البهلاني، المعروف بأبي مسلم، بقصيدة ميمية عدد أبياتها 250 بيتا، لها غاية واحدة هي تأكيد قيم الأخلاق واشاعة الخير ونشر الطيبة بين الناس، ودعوتهم الى عدم الاستكانة لذل العيش، بل الأولى ان يأخذوا بالحزم والعزم، وأن يخوضوا غمرات العمل في مواجهة غدر الزمان.

يستفيد أبو مسلم البهلاني من مقدمة طللية يصل بها الى تصوير حزنه على ما صار اليه الناس من فرقة واختلاف، حتى أصبحوا غرضا يرمى وفيئا يُنتهب، قال في أولها مخاطبا معاهد تذكاره:

معاهد تذكاري سقتك الغمائم ملياً، متى يقلع تلته سواجم (1) ولا تستغرب دعوته لتلك الديار بالسقيا، فهو يعيش في بلد تشح فيه الامطار، ويظل الناس يترقبون خير السماء، كما يعملون على استنباط خير الأرض بئراً يحفر أو «فلجا» تُعاد اليه الحياة.

ولا يكفيه ان يدعو لها بالسقيا في هذا البيت، والاخضرار والخصب في الأبيات اللاحقة حتى يزجي اليها السلام تحمله النسائم العليلة:

ولا برحت تلك الرياض نواضراً تضمخها طيب السلام النسائم أبو مسلم شاعر يعي ما يقول، تترابط عنده أبيات القصيدة مهما طالت، فإهداؤه السلام الى دياره في البيت السابق، وهو الخامس في تسلسل أبيات القصيدة، نوع من التمني، والتمني وحده لا يكفي، فلا الأمن سيتحقق، ولا السلام سيستتب إلا بالتوعية الشاملة بأهميتهما، واقناع الناس بأن لا سبيل للنمو إلا بهما، أما باستمرار الفرقة، وسيادة التباغض والتناحر، فلن يتحقق إلا مزيد من الخراب والدمار، ولذا يرى أن من أولى مهمات الشعر أن يقوم بالتوعية والدعوة الى السلام والأمان.

ويطبق أبو مسلم هذه المهمة على نفسه قبل ان يكتبها شعرا، فهو لا يشجيه العشق ولا تثير أشجانه (غيداء كاعب) ولا جمال ليلى وأمثالها ممن تثير (رسيس الفؤاد) ولكنه يشجى لذكرى المصلحين، الذين ظهروا في تلك الديار، فزانوها بأعمالهم وصانوها بجدهم وحنانهم على الناس.

ويعود الشاعر الى السلام والأمان، تصريحا لا تلميحا، في قصيدته العينية التي تجاوزت المائتي بيت، عبر عشرات اللوحات الفنية التي تلتقي كلها في إطار القصيدة العام، وجوها المنبعث من صياغتها وأسلوبها وما تحمله من أفكار ترتكز على سيادة العدل كطريق لسيادة الأمن الشخصي والسلام الاجتماعي، فيتساءل تساؤلا انكاريا، بحسب مصطلحات البلاغيين:

فأي عمار قام والظلم أسه وتلكم ديار الظالمين بلاقعُ (2) وهو يرى أن الناس يظلمون أنفسهم إن جعلوا من الخلافات سببا للحروب وتفتيتا لوحدة الكلمة، فالدين، دائماً، أسمى من الخلافات الشخصية، ويجب أن يكون بعيداً عن أن يكون سلماً للصراعات المدمرة، وللأطماع الخاصة المتنافية مع مصلحة المجموع، ويأتي ذلك في مجموعة من الصور التي تشكل أحوال ذلك الزمان وأوضاعه، فيقول:

فيا ليت أهل الدين لم يتفرقوا وليت نظام الدين للكل جامع وماصدعة الاسلام من سيف خصمه بأعظم مما بين أهليه واقع هراشا على الدنيا وطيشا على الهوى وذلك سم في الحقيقة ناقع المنظومات الأربع يقدم لنا كتاب (نهضة الأعيان) نماذج مختارة من أشعار هذا الرعيل من الشعراء، ومثله كتاب (عين المصالح) والى درجة قريبة كتاب (تحفة الأعيان) وهي كتب مطبوعة منذ فترة طويلة وبحاجة الى اعادة طباعة. كما ان الشعر المتضمن فيها بحاجة الى دراسة، إن لم نقل دراسات، تضعه في موضعه بين النماذج المتقدمة من أشعار العرب، قدماء ومعاصرين.

ويلفت نظرنا كتيب صغير عنوانه (المنظومات الأربع) للشيخ ناصر بن سالم الرواحي، صدر عن المطبعة العمومية في دمشق قبل عشرات السنين، وهو يتضمن، كما يدل عليه اسمه، أربع منظومات هي:

أ ـ الفتح والرضوان في السيف والايمان، في 250 بيتاً.

ب ـ المقصورة في 230 بيتاً.

ج ـ قصيدة في تعزية الامام الخروصي في 19 بيتاً.

د. فتح الرستاق للشاعر محمد بن شيخان السالمي في 92 بيتا.

في (الفتح والرضوان) يجمع الشاعر بين رضوان الله والفتح، كما يجمع بين السيف والايمان، ومنذ البيت الأول الذي يستهل به الشاعر مقدمته الطللية، تصطخب الأجواء بنداءات الحرب، التي لا ترضى أن ينام المرء بعيداً عن أتونها:

تلك البوارق حاديهن مرنان فما لطرفك يا ذا الشجو وسنان شقت صوارمها الأرجاء واهتزعت تزجى خميسا له في الجو ميدان (3) فماذا نسمع؟ وماذا نرى؟ (البوارق) (الرنين) (الصوارم التي تشق الأرجاء) (الاهتزاع) وهو أشد الانتزاع، (الخميس) وهو الجيش اللجب الذي تصطخب أصوات مقاتليه، ثم (الميدان) الذي هو حومة القتال.

وعلى امتداد 250 بيتاً يقودنا الشاعر في أجواء متلبدة بالغبار المتطاير من سنابك الخيل، وبالسيوف التي ترتفع وتهوى، والرماح التي تنطلق الى أهدافها من رؤوس الأعداء أو صدورهم أو نحورهم.

وعلى الرغم من هذا العنف والقسوة، نرى أن الشاعر يعود الى طبيعته من حين لآخر، فيجزل شعره، وترق أحاسيسه،خاصة حين يتذكر وطنه الذي يذكره به البرق والمطر، لكنه لا يبكي، فهو غريب يجمل به الصبر:

إني أشح بدمعي ان يسح على أرض وما هي لي يا برق أوطان هبك استطرت فؤادي فاستطر رمقي إلى معاهد لي فيهن أشجان تلك المعاهد ما عهدي بها انتقلت وهن وسط ضميري الآن سكان نأيت عنها، ولكن لا أفارقها بلى كم افترقت روح وجثمان (4) وهكذا يعود الى القيم ذاتها التي رأيناها تحرك وجدان غيره من الشعراء، فليس الحنين للحب، لا الى ليلي ولا إلى سلمى، ولا الى الرند والريحان، وإنما الى الدار ذاتها، والى الصدق والمعروف والاحسان، ولكن المشكلة ان الدهر، من وجهة نظر الرواحي، يعيد تشكيل صورة الوطن على هواه لا على هوى من سبقه من الشعراء، وإذا كان الطغرائي يقول:

لم أرتض العيش والأيام مقبلة فكيف أرضى وقد ولت على عجل فإن الرواحي يرى في المسألة شيئاً آخر، يرى ان الدهر لا بد ان يناله الهرم، أما الأماني فتظل طفلة غريرة تحاول أن تتخلص من شرنقة الواقع، فلا مناص من عتاب الشاعر للدهر:

حتى متى أتقاضى الدهر قربهم والدهر يهرم والآمال ولدان حتى م يادهر لا تبقي على بشر حر، وحتى م ضيم الحر احسان؟

أكل رأيك حربي أم لها أمد فإن عهدي وللحالات ألوان ثم ينطلق من هذا البيت ليتلاعب باللغة والتشكيل والتركيب، مقدما صياغات عديدة للفكرة العامة التي جمعت هذا الفريق من الشعراء، وهي فكرة العدالة وسيادة القيم الرفيعة السامية، والأخذ بالعمل والانتاج، والجد والاجتهاد في شتى ميادين الحياة، وعلى الرغم من تفاوت موقفهم من الحرب، ما بين قارع لطبولها في كل حين، ومن يعتبرها الخيار الأخير، وما بين رافض لها، خصوصاً إذا كانت بين أبناء الدين الواحد والبلد الواحد، فإن خصائص أشعارهم تظل واحدة، في كيفية الصياغة الفنية، وفي المضامين، وكذا في توخي الأصالة والمحافظة عليها مهما طالت القصيدة وتنوعت صورها، فكانت أصالة الشعر، فكرا وأسلوبا خير سياج صان هؤلاء الشعراء من الخطل والخلل، ورسخهم أعلاما في دنيا الشعر، مهما اختلفنا معهم، نهجا ومضمونا، أم اتفقنا، ولا أحسب ان لغير الشعر انتماء الشعراء.

هوامش 1 ـ نهضة الأعيان 355 وما بعدها.

2 ـ المصدر السابق 368.

3 ـ المنظومات الأربع 3.

4 ـ ن.م 3.