التشظي والتيه العربي على أرض الكويت

الاحتلال العراقي والحروب البيتية الصغيرة في رواية «صباح إمرأة» للكاتبة السورية غالية قباني

TT

ماذا حدث صبيحة ذلك الخميس، بعد ان اعلن البيان العسكري العراقي ان الكويت هي المحافظة التاسعة عشرة؟

«لقد خلخلت قوات عسكرية ايقاع بلد بأكمله». وغالية قباني في روايتها «صباح امرأة» الصادرة عن «المركز الثقافي العربي»، تتنقل بك على صفحاتها في البيوت والملاجئ والمقاهي والمستشفيات لترصد بعينين نافذتين حال مدينة هي، بحكم وضعها الاستثنائي حينها، وبسبب خلطتها البشرية العربية، نموذج لقراءة تصدعات النفس العربية، وتوتراتها وانهياراتها.

تبني غالية قباني روايتها على فكرة بسيطة ظاهرآً لكنها مركبة في اعماقها. وتدعك تتساءل بطفولية، بعد ان تأتي على آخر صفحة من روايتها: هل حروبنا العربية ـ العربية هي مسؤولية الحكام، ام هي امتداد لحروبنا البيتية الصغيرة؟

تندس الكاتبة في جلد الراوية ندى، الطبيبة العربية المتزوجة من صيدلي مصري، ومن بيتها تنطلق لتفتح الابواب المنزلية المغلقة على اسرارها، والنفوس الغافلة عن براكينها التي تتهيأ للانفجار.

ورغم ما تعنيه خصوصية المعاناة الكويتية في تلك الفترة إلا ان غالية قباني تفتح التجربة، بمهارة، على مداها الانساني بتعقيداته العربية وتراكماته الانكسارية. وتلمس معها ان ما يحدث في الشوارع والساحات من صدامات مسلحة يكاد يوازي تلك الصدامات البيتية داخل الاسر العربية ذات الجنسيات المتعددة.

ثمة مصريون وسوريون واردنيون وفلسطينيون وسعوديون وكويتيون، وهم جميعهم يتساوون ويتماثلون في احساسهم بالضياع والقلق والخوف وانتظار الحرب او اللاحرب، الهروب او البقاء لو اختلفت ظروف كل منهم وقدرته على الحركة. لكن هذه «الاحداث القوية تكنس الاهتمامات الى الداخل» حيث يبدأ الازواج بتصفية حساباتهم كما تقول ندى «كأن ما يحدث في البلد غير كاف لنتفق على عدو مشترك، فرغ المكان من كل الاخطار، ولم يعد لدينا سوى صد الهجمات المتبادلة؟».

تزدحم الشخصيات، الى حد يبدو مبالغاً فيه، وكأن الكاتبة من فرط احساسها بالخطر، تحاول ان تضعك امام اكبر عدد ممكن من ردود الفعل في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة.

الطبيبة ندى تكتشف إثر الغزو ان زوجها الصيدلي المصري، يمارس عليها سلطة «احتلال» و«هيمنة»، ولا بد ان تحرر جسدها وروحها من رجس سطوته. وهو ـ اي مجدي ـ يعترف في قرارة نفسه ان زوجته هي مأزقه النفسي والعاطفي ويتمنى، كي يمتلكها «لو يحفظها في زجاجة ويغلق عليها والى الابد».

سعد طبيب ومناضل فلسطيني قديم لكنه يعرف ان النضال وصل به الى طريق مسدود، احب ندى وتخلّت عنه، عائدة الى زوجها، وبعد وقوع الغزو يشعر انه انسان مخذول على كل المستويات. سليم ونايفة يختلفان بدورهما حول البقاء او الرحيل فأين يذهب هو الفلسطيني حامل الوثيقة الذي لا تقبله اي دولة عربية. لكن سليم بعد انتهاء الحرب، يمكث فترة في مستشفى للامراض النفسية ثم يعود الى غزة بعد انفصاله عن نايفة. الامثلة كثيرة وغالية قباني تدخل الى حرم البيوت والنفوس باسم الطبيبة ندى التي انفصلت عن زوجها وباتت توجد في جلسات نسائىة مع صديقة حميمة، او عائلة غادرها رجالها ولم يعودوا. وبالتالي فالرواية تقوم في نصفها الاخير على الاقل على رؤية نسائىة للامور وتحليلات انثوية، متعددة الاصوات، للحال المأساوي القائم.

ثمة خيبة في «صباح امرأة» تطال النساء والرجال على حد سواء وصعوبة هائلة في التواصل والحوار بعد وقوع الغزو، اذ تنفضّ الحلقة التي كان يحرص المواطن الكويتي، عبد الرحمن، على جمع اصدقائه حولها بسبب التنافر في وجهات النظر حول الوضع المستجد، وتصبح الحياة مجموعة من الكوابيس واحلام اليقظة المجنونة.

ولا شك ان القارئ يلحظ انه امام رواية تكاد تؤرخ للحظة انهيار عربي تصوره الكاتبة بحسها الانثوي الشفاف وكأنه تراكمات فردية وجماعية لحالات من البحث الذي ينتهي بالقبض على فراغ. صغرى تحاول ان تغري الرجال لتعوض عن اصولها الفقيرة، كفاية التي خذلها الحب او خذلته تحاول ان تجعل من غرفتها بيتاً كاملاً مستقلاً بعد ان فشلت في ان يكون لها بيتاً.

لا تكتمل قصة حب واحدة في «صباح امرأة»، وانت اذا ما تتبعت خيوط الاحداث ومسارات الشخصيات الكثيرة التي تعرضها عليك، ترى ان المسارات العاطفية تجهض بتكرار استفزازي لاسباب تعود لتعدد توجهات الناس. فيكاد لا يلتقي اثنان على خط واحد إلا سعد وزوجته التي هي قريبته وشريكته في حياة توافقية لا حرارة فيها.

مشت غالية قباني ببهلوانية على حبل رفيع وخطر، وروايتها لشدة واقعيتها كان يمكنها ان تنزلق بها الى منحدر سحيق، لكن حساسيتها الانثوية الرقيقة والتقاطها الراداري للاصوات والروائح والخلجات والحركات، كل هذا يجعل من روايتها نصاً محمولا بدلالات واشارات تنطوي على خصوبة بيّنة.

ثمة خيط يربط الحكاية من البداية وحتى المنتهى، خيط شعوري يقوم على «التفتت» و«التشظي» و«التشوش» و«القلق» و«الانهاك»، حالات تذهب بأصحابها الى «سراب لامع» و«احتجاب رؤيا»، وسقوط يتلوه سقوط. لكن غالية قباني تغلف هذه الاجواء السوداوية بطاقة هائلة على التجدد، لا بد تحسدها عليها، فالطبيبة ندى راوية القصة وبطلتها، تلملم ذاتها المتشظية، في نهاية المطاف، وتلتقط انفاسها بعد ان تتخلص من رجلها بقرار ذاتي، حر، يجعلها اكثر قدرة على مواجهة استحقاق آخر لا يقل صعوبة عن الاول، وهو مغادرة الكويت، «الوطن البديل»، إلى غد ضبابي مجهول الملامح.

وكأنما حلّ المعضلات يبدأ دائماً من الداخل، من الحلقة الاصغر بين رجل وامرأة، ليصبح الأمن والطمأنينة، ممكنين، في ما بعد، في الشوارع والساحات وعلى نقاط الحدود والعبور.

=