الخميني أباحها وخامنئي أجاب الناشرين المحتجين بسؤال: «ما هو الحق»؟

القرصنة والتدليس في نشر الكتب

TT

ما هو الفرق بين سرقة المال وسرقة الكتاب؟ أليس الكتب أموالاً، أليست الأفكار جهوداً وممتلكات؟ فلماذا لا ينبذ سارقو المال الفكري، وتأخذهم المحاكم بجرائم السطو والاختلاس والتدليس؟ في إيران وجد قراصنة ومدلسو الكتب حماية فقهية، مصدرها قائد الثورة الإسلامية ومؤسس الدولة آية روح الله خميني، ومرشد الدولة آية الله علي خأمنئي بفتوتين صريحيتن، سنأتي عليهما. واشتهرت مدينة قم الإيرانية بوجود تلك الدور، إلا أنها قبل أن تتقن الصنعة كانت تترك في الصفحة الأخيرة عنوان الدار الأصلية وتاريخ النشر، مع أنها تنقش في صدر الكتاب عنوانها، ولم تنس الإشارة إلى أنها الطبعة الأولى، والحقوق محفوظة للناشر.

كان كتاباي «الأديان والمذاهب بالعراق» و«جدل التنزيل» من ضحايا دور القرصنة في ايران، لكن هذه الخسارة كانت أقل من غيري، لأن الناشر ترك اسمي على غلاف الكتاب. أما الدار السارقة فهي من أسماء التضاد «لسان الصدق»، وكتب عليه الطبعة الثانية، مع أن الطبعة الثانية الحقيقية تحت الإصدار لدى ناشرها «دار الجمل» الشاعر خالد المعالي، وهي طبعة مزيدة ومنقحة، بأكثر من مائتي صفحة. وسرق الكتاب مرة ثانية من دار أيضاً من أسماء التضاد «الروح الأمين». وما التسميتان: «لسان الصدق» و«الروح الأمين»، المعروفتان لذوات مقدسة في النصوص الدينية، إلا ضرب ساذج من ضروب التحايل، على غرار أن ينقش على دكان صرافة معروف بالغش والتزوير اسم الصادق والأمين. الطبعتان المزورتان لكتابيَّ «جدل التنزيل»، و«الأديان والمذاهب بالعراق» يوزعان ببغداد وبيروت، ووصلا لندن، وعرضا بمعرض القاهرة، ومعارض عربية أخرى، نقش عليهما اسم الدار وعبارة: قم المقدسة 2005، مع وضع رقم صاحب الدار: صادق محمد كاظم، و«جميع الحقوق محفوظة»، حسب ما سجله في صفحة الكتاب الداخلية، له طبعاً!.

الداران: «لسان الصدق» و«الروح الأمين» تمارسان قرصنتهما بحرية في مدينة قم الإيرانية، وهما تقدمان نموذجاً صارخاً للتعدي على حقوق الملكية الفكرية. أقول هذا لأن فتاوى صدرت من قائد الثورة الإيرانية تسمح بطبع الكتب، من دون الحصول على موافقة المؤلف أو الناشر الأصلي. جاءت الفتوى رداً على سؤال ورده من ناشر مزيف: «هل يجوز شرعاً طباعة ونشر الكتب التي تخدم الإسلام والعلم دون الرجوع إلى مؤلفيها وناشريها». وكان الجواب: «نعم». ومعلوم أن تطبيق حقوق النشر يطبق على المؤلفين الإيرانيين فقط! أما بقية المؤلفين فلا. ومعلوم أن التقليد الديني بإيران يرتبط بالفقيه المقَلد، وحكمه يصبح قانوناً، فالفقيه له أن يبيح الحرام ويحرم الحلال، وإباحة قرصنة الكتب أوضح دليل.

لم يتوقف الأمر عند استفتاء آية الله روح الله الخميني، فقد اضطر ناشرون سرقت دور «قم» كتبهم، ونشرتها باسمها، وكانت خسارتهم عظيمة، اللجوء إلى استفتاء مرشد الدولة الإيرانية آية الله خامنئي حول الموضوع نفسه، والشكوى إليه بشأن حقوقهم، فكتب مفتياً: «وما هو الحق»! الحق الذي سخر منه مرشد الدولة هو أموال صرفها الناشر، وزمن بذله المؤلف محسوماً من عمره. فإن اعتاد المرشد على نسخ الرسائل الفقهية بين شيوخه وتلامذته، دون أن يحسب بالمفهوم الفقهي سرقة أدبية وفكرية، فهو الآن زعيم دولة، لا تميز بين الحقوق المادية والحقوق الروحية. والمؤلفون كما يعرف سماحته ليست لهم حقوق شرعية يعيشون عليها، مثلما هي حقوق المراجع على مقلديهم. بفتواه «وما هو الحق» لم يخرج مرشد الدولة من جلبابه الديني والفقهي، ليلبس جلباب الدولة وقوانينها وتشريعاتها.

وحصل أن اعترضت معارض الكتاب في بعض الدول العربية على دور نشر إيرانية عرضت كتبا مدلسة، وهددتها بغلق الجناح إن لم ترضخ للتعليمات المتعامل بها، فما كان من السفارة الإيرانية إلا التدخل، ومعاونة المدلسين. وقبل أيام نشرت جريدة «المدى» البغدادية تحقيقاً مهماً للكاتب فؤاد فاضل حول سرقة الكتب بقم الإيرانية، وتوزيعها بحرية ببغداد وبيروت. تحدث فيه أحد العاملين في مجال النشر، قائلاً: «لا يوجد قانون لحماية المطبوعات وإن وجد فمع وقف التنفيذ، علماً أن قانون حماية المطبوعات ليس حديث العهد وإنما يعود تاريخه إلى العهد العثماني سنة 1870».

والأخطر من هذا، حسب «المدى» إنه يتم الآن في خارج العراق الاعتداء على حقوق المؤلف العراقي، وقد تم طبع عدة كتب لمؤلفين عراقيين في مصر ولبنان وإيران قسم منها ضمت أسماء مؤلفيها، والقسم الآخر حذف منها اسم مؤلفها الأصلي، وثبتت على أغلفتها أسماء لآخرين، مع الإشارة إلى أنها مطبوعة أول مرة، ووضع لها رقم إيداع خاص بها، وهذه كارثة لا يمكن السكوت عنها». وأتى التحقيق على أسماء كتب كثيرة من المسروقات: «عنوان المجد» لمؤلفه إبراهيم صبغة الله الحيدري، و«الفوز بأفراد» للأب انستانس الكرملي، الذي حذف اسمه ووضع بدله اسما آخر، وكتاب «حروب العرب» للمؤرخ ابن إسحاق، الذي استبدل باسم آخر.

ربما كانت دارا «الروح الأمين»، «ولسان الصدق» من أقل الدور الإيرانية تدليساً وقرصنة لنشر الكتب، فمَنْ تابع منشورات «الشريف الرضي» قلما يجد كتاباً تراثياً سلم من قرصنتها، وأمامي هنا مجموعة من العناوين، التي تباع بلندن بحرية كاملة: «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي (ت 415هـ)، الأصل منشورات «مكتبة الحياة» ببيروت، وبتحقيق الأحمدين: أمين والزين. «النقود الإسلامية» لتقي الدين المقريزي (ت845هـ)، منشورات «المكتبة الحيدرية» بالنجف 1967، وبتحقيق علي بحر العلوم، «الإمامة والسياسة» أو «تاريخ الخلفاء» لابن قتيبة (ت276هـ). «بلدان الخلافة الشرقية» لكي لسترنج، منشورات «المجمع العلمي العراقي» ببغداد 1954، وبتحقيق: بشير فرنسيس وكوركيس عواد, «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث»، همسلي لونكريك، الطبعة الرابعة بغداد 1968، بترجمة جعفر الخياط. «تاريخ اليعقوبي» لابن واضح اليعقوبي (ت292هـ). «دوحة الوزراء» للشيخ رسول الكركوكلي (أيام الوالي المملوكي داود باشا)، بترجمة موسى كاظم نورس، منشورات بغداد، «بلاغات النساء» لأبي طاهر طيفور (ت280هـ)، منشورات «دار النهضة» بغداد. «ديوان» محمد سعيد الحبوبي (قتل 1915)، منشورات «الدار الأهلية» ببيروت 1914، على نفقة الحاج عبد المحسن شلاش. ودلست مكتبة آية المرعشي النجفي، بقم أيضاً، كتاب «آمالي المرتضى» للشريف المرتضى (ت)، عن طبعة 1907 نشر محمد أمين الناجي. ودلست «انتشارات المكتبة الحيدرية» بقم كتاب «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» لعلي الوردي، وهو منشورات بغداد، وهي غير المكتبة الحيدرية المعروفة بالنجف. وربما الدار نفسها دلست كتاب الوردي «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»، دون أن تضع اسمها عليه، وهو منشورات بغداد 1971. وهذا ما حصل أيضاً مع كتاب «الطبقات الاجتماعية في العراق» للباحث الفلسطيني حنا بطاطو. كذلك طبع وترجم كتاب «جمهورية الخوف» لكنعان مكية، وما زال يتداول دون علم المؤلف ولا الناشر، ومثله كتب لحسن العلوي والقائمة تطول.

على الباحثين والكتاب الذين يستفيدون من تلك الطبعات المدلسة، أن ينتبهوا إلى داخل الكتاب، ليجدوا، بهفوة من ناشري هذا الطبعات، اسم الناشر الحقيقي ومكان وتاريخ النشر، فالكتاب نسخ صورة طبق الأصل، ليس هناك اختلاف بترقيم الصفحات ولا الفصول، ولا أي تحوير في المقدمة. لذا وجب في حال الاقتباس منها كحالة اضطرار تسجيل المعلومات الحقيقية، فليس لهذه الدور غير الأغلفة. خلا ذلك، أليس من المفروض مقاطعة معرض الكتب العربية لدور قرصنة الكتب، والدول غير الملتزمة بقوانين النشر. يتبعها مقاطعة (الكاتب) و(الباحث) السارق، وأن يمنع من الكتابة في الصحف والمجلات، والظهور في البرامج الثقافية عبر الفضائيات، حتى يعتذر علناً بالأقل من جريمة السرقة؟ لكن ما يحصل هو تقديم الفضائيات والمهرجانات الثقافية للسارقين كباحثين ومبدعين، ليتحدثوا بحرية عن اعمال ليس لهم فيها غير نسخ الحروف!

مسألة تدليس وقرصنة الكتب ليست بنت اليوم قطعاً ففي العام 1975 كتب الدكتور الأديب علي جواد الطاهر (ت1996) مقالاً، استعرت منه عنوان المقال، «التدليس في الكتب» استهلها بالقول: «لا بد للظاهرة من أن تؤرخ، وقد يزع التاريخ وقد يجدي، ولكنه يسجل عيوب الحاضر للمستقبل على أمل أن يكون المستقبل خيراً من الحاضر، فيضحك أحفادنا بذكائنا ويسخرون من أمتنا!». تحدث الطاهر عن دور نشر محترمة، عل حد عبارته ببيروت «دون حرص على سمعة بيروت». قال: «ما تكاد الطبعة تصدر بالقاهرة حتى تنشر بيروت أضعاف أضعافها. وما يكاد يروج كتاب مؤلف، ويعود بشيء من ربح يقترب من الجهد المبذول حتى تتناهبه دور النشر، حتى صار الإنسان يخشى نجاح كتاب له، ويفضل الستر». وقد ختم الطاهر مقاله بعبارة يائسة من الصلاح: «سجل يا تاريخ!» (وراء الأفق الأدبي 1977 مجموعة مقالات).