غلاب التسعيني يدعو الشباب القلق لحب الحياة

استخلاص العبر من تجارب عمر طويل أدبياً وسياسياً

TT

ليس الأديب المغربي عبد الكريم غلاب، الذي يشارف العقد التاسع، من الكتاب الذين استسلموا لضغوطات الشيخوخة ومتاعبها، مع أنه وصفها في إحدى مقالاته بالظالمة.

وفي هذا العمر المتقدم لا يزال غلاب نابض الفكر، قوي الذاكرة، قادرا على محاججة الأفكار والإصغاء لإيقاع العصر.

ينطبق على غلاب الوصف الذي أطلقه على أستاذه الناقد الراحل محمد مندور، في مرثية حين قال عنه إن فكره ظل يلمع طوال حياته. ومندور هو الذي وضع مقدمة لسيرة غلاب في السجن «سبعة أبواب» الصادرة في الستينات عن «دار المعرفة» بمصر. وفيها يحكي عن تجربة المعتقل الذي ساقه إليه المستعمر الفرنسي جراء نشاطه الوطني، فكان ذلك النص الشهادة في وقت مبكر، عن تجربة رائدة في الأدب العربي أو على الأقل إسهاما مغربيا مميزا في هذا اللون من الكتابة الذي يعرف الآن ازدهارا في المغرب نتيجة جو الحرية الذي أشاعه العهد الجديد، تحول معه معتقلون سابقون، مدنيون وعسكريون، إلى كتاب صاغوا تجاربهم المريرة وحكوا عن آلامهم في المعتقلات السرية والعلنية، وتفننوا في وصف ألوان العذاب الذي مورس عليهم بدرجات متفاوتة في النجاح وتأكيد الموهبة.

لم ينقطع غلاب عن الكتابة، منذ ذاق طعمها واستسلم راضيا لغوايتها. احتل مكانه عن جدارة في الرواية، واتخذ له موقعا بسهولة في دنيا القصة القصيرة، وتنوعت إسهاماته الأخرى، وهي غزيرة، بين حقول الدراسة الأدبية وأدب الرحلة والمقالة الأدبية والاجتماعية وحتى الدينية والخاطرة الصحافية. وفي كل تلك الأجناس، يصدر غلاب عن فكر واضح، ومنطق سليم ووفاء ثابت لقناعاته الفكرية والأدبية والسياسية التي آمن بها. وهو بهذا المعنى من الكتاب القلائل الذين ثابروا على السير في نفس النهج، يتطور ويتجدد دون زيغ أو خروج لافت، عن الجادة.

وإذا كان لغلاب خصوم في السياسة، فإن هالته الأدبية تمنع منتقديه من التطاول عليه، يراعون إنجازاته الفكرية وقامته الأدبية التي أكسبته قراء واحتراما، واعترافا من المحافل الأدبية في الخارج التي ترجمت بعض رواياته وقصصه القصيرة، ذات النكهة الواقعية التاريخية التي اعتبرها كثير من الدارسين مفتاحا لرصد التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في أطواره الانتقالية منذ الاستقلال، ما حذا ببعض النقاد إلى عقد مقارنة بينه وبين المصري نجيب محفوظ.

وسيبرهن غلاب أخيرا، أنه شاب في التسعين، بإصداره كتابين دفعة واحدة الأول رواية، نسج اسمها من روايته الأولى الرائدة «دفنا الماضي» لكن هذه المرة بصيغة النفي «لم ندفن الماضي». أما الكتاب الثاني فقد اختار له عنوانا بسيطا «نحب الحياة» وأضاف له عنوانا فرعيا يشرح مقاصده، حيث ورد على ظهر الغلاف: كتاب كل شابة.. كل شاب.. كل رجل.. كل امرأة.

وعلى الرغم من أن الأديب غلاب صاغ هذا العنوان، وكأنه يروج لبضاعة، فإن محتويات الكتاب تبرر اختيار العنوان الرئيس والفرعي، فهو موجه للشباب القلق الحائر، يتوخى الكاتب أن يبادلهم الآراء والأفكار التي تضطرم في أذهانهم. وكما يقول فإن الشباب في هذه المرحلة المضطربة يحتاجون إلى من ينصحهم ويرشدهم، يوجههم ويهديهم سواء السبيل، حتى يتمكنوا من معالجة ومواجهة المشاكل التي تعترضهم ويظنون أنها عصية صعبة يستحيل التغلب عليها، بينما هي في الواقع وبحكم تجربة مفكر من عيار غلاب، بسيطة وهينة ويقابلها جميع الناس كيفما كانوا خلال مسار حياتهم.

والكتاب الواقع في حوالي 270 صفحة (قطع متوسط) وزعت على 27 مقالة، تحت عناوين تعالج مواضيع أخلاقية واجتماعية وعاطفية، يتحكم فيها خيط التعبيرعن التجربة الحياتية الغنية التي مر بها الكاتب في أطوار حياته، والتي استخلص منها عبرا وأحكاما وخلاصات وعصارات تجارب، يضعها بين يدي قارئه الشاب المقبل على الحياة، ليتأملها ويأخذ منها ما يناسبه.

وحينما تختار بالصدفة أي موضوع من المواضيع التي طرقها الكاتب، دون الاعتماد على المراجع والإكثار من الإحالات، يصادفك فكر واضح ونفسية متفائلة ودعوة صريحة للإقبال على الحياة لكي تحب بالعقل والفكر، كما يقول في المقدمة، مثلما هي طمأنة للنفوس الحائرة، يداويها الكاتب بالفلسفة والحكمة والنفحات الدينية، مؤكدا أنه «يعيش الحياة بكل أبعادها لأنه يؤمن بها ويعتقد أن الذين يعيشون فيها ولا يمنحون أنفسهم كل مكارمها وكل قدراتهم الفكرية والجسمية والقلبية والعاطفية، يظلمون أنفسهم بمقدار ما يقصرون في أعظم شيء وجد في الكون وهو الحياة.

الحكمة الثانية وراء الكتاب، تلخصها الفقرة التالية المثبتة على الغلاف الأخير «لا تغضبن من الحياة، ولا تعشها وأنت كاره لها» وهذا الكتاب «يجعلك تعيشها وأنت تحبها». إنه لون من التأليف، له طعمه ومذاقه الخاص، مثلما هو وثيقة كاشفة عن مشاعر وأحاسيس وأفكار الكاتب.